آيات من القرآن الكريم

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ

الذين يصبرون على الشدائد والمكاره، ويكونون عند الرخاء والسعة من الشاكرين، ويعملون الأعمال الطيبة الخيّرة في الدنيا، فهؤلاء لهم من الله مغفرة على ما صبروا على عمل الخير وحال المصاب، ولهم ثواب كبير أقله الجنة. وهذا جمع بين المطلوبين: زوال العقاب والخلاص منه، وهو المراد من قوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والفوز بالثواب، وهو المراد من قوله: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهذا دليل على إعجاز القرآن لا بألفاظه فحسب، بل بمعانيه أيضا.
أما الكافر عند البلاء فلا يكون عادة من الصابرين، وعند الفوز بالنعمة لا يكون من الشاكرين لأن الشكر الحقيقي لا يكون إلا بالإيمان بالمنعم، والصبر لا ثواب له عليه ما لم ينبعث من الإيمان، وكثيرا ما يجزع وينفد صبره وربما ينتحر لأنه لا يجد سلوى أو عزاء له بمصابه يعوضه عنه في الآخرة لعدم إيمانه بالبعث والحساب والجزاء الحق من الله تعالى وحده.
والخلاصة: أن الآيات موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر، ومنشأ الفرق هو الإيمان والكفر.
٥- أحوال الدنيا غير باقية، بل هي متغيرة متحولة من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات، وبالعكس وهو الانتقال من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.
مطالبة مشركي مكّة بإنزال كنز أو مجيء ملك مع النّبي صلى الله عليه وسلّم وتحدّيهم بالقرآن
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)

صفحة رقم 30

الإعراب:
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ: ضائِقٌ: عطف على تارِكٌ، وصَدْرُكَ مرفوع به، وهاء بِهِ تعود على ما أو على بَعْضَ، أو على التّبليغ أو على التّكذيب. أَنْ يَقُولُوا في موضع نصب، أي كراهية أن يقولوا.
المفردات اللغوية:
فَلَعَلَّكَ هنا للاستفهام الإنكاري، الذي يراد به النّفي أو النّهي، أي لا تترك. والأصل أن «لعلّ» للتّرجي وتوقع المحبوب، وقد تكون للإعداد والتّهيئة، كما في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة ٢/ ٢١ وغيرها]، وقد تكون للتّعليل كما في قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه ٢٠/ ٤٤].
تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلغهم إياه، وهو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم واستهزائهم، ولا يلزم من توقع الشيء وجوده ووقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرّسل من الخيانة في الوحي مانعا.
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ عارض لك أحيانا ضيق الصّدر، بتلاوته عليهم، لأجل أن يقولوا، أي مخافة أن يقولواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي هلا صحبه كنز ينفقه لكسب الأتباع كالملوك، والكنز: المال الحاصل بغير كسب. أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه كما اقترحنا. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، لا الإتيان بما اقترحوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ رقيب حفيظ للأمور، فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
أَمْ يَقُولُونَ: أَمْ بمعنى بل. افْتَراهُ الضمير لما يوحى وهو القرآن. بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة والبيان وحسن النّظم، تحدّاهم أولا بالإتيان بمثل القرآن، ثم بعشر سور، ثم لما عجزوا عنها تحدّاهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كلّ واحد. مُفْتَرَياتٍ مختلقات

صفحة رقم 31

من عند أنفسكم، إن صحّ أني اختلقته من عند نفسي، فإنكم عرب فصحاء مثلي، تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر لمعرفتكم بأساليب البيان خطابة وشعرا ونثرا. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إلى المعاونة على المعارضة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي بالإتيان بما دعوتم إليه للمعاونة. والاستجابة: الإجابة. وجمع ضمير لَكُمْ إما لتعظيم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم أيضا. فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ خطاب للمشركين: فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بعلم الله فلا يعلمه إلا الله، ولا يقدر عليه سواه، وليس افتراء عليه.
وَأَنْ مخففة أي أنه. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إن كان الخطاب للمؤمنين؟ وهل أسلموا بعد هذه الحجة القاطعة إن كان الخطاب مع الكفار؟
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر مبين، وإعراضهم عنه كيلا يسمعوه، ذكر تكذيبهم للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللقرآن، وظنّهم أنه مثل الملوك مدعوم بالمال للإغراء وكسب الأتباع، ومطالبتهم دعمه بالكنز أو بالملك، وتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم.
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآية.
التفسير والبيان:
لعلك أيها الرّسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به، مثل تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، أو لأجل أن يقولوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ

صفحة رقم 32

والمراد بهذا الاستفهام الإنكاري النّفي أو النّهي، أي لا تترك شيئا مما أوحينا إليك من تبليغه المشركين وغيرهم، ولا تتضايق من تلاوته عليهم. ويقصد من ذلك المبالغة في التّحذير، والإغراء بأداء الرّسالة، وعدم المبالاة بكلماتهم الفاسدة، تأكيدا على تبليغ كامل الوحي، سواء رضي الناس أو غضبوا، لأن مجاملتهم غير مفيدة. ولا يعني هذا وقوع المنهي عنه، لعصمة الرّسول من التّقصير أو الخيانة في الوحي، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن يخون في الوحي، والتّنزيل، وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشّك في كلّ الشّرائع والتّكاليف، وذلك يقدح في النبوة.
أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ.. أي لا تتضايق لأجل أن يقولوا، أو كراهة أن يقولوا «١» : لولا أي هلا أنزل عليه كنز من عند ربّه يغنيه عن التّجارة والكسب، ويدلّ على صدقه، والقائل عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أو ينزل معه ملك من السماء يؤيد دعوته، كقوله تعالى:
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان ٢٥/ ٧- ٨]. وإنما قال:
ضائِقٌ ولم يقل «ضيق» ليشاكل تارِكٌ الذي قبله، ولأن الضائق عارض طارئ غير لازم، والضيق ألزم منه.
فهذا إرشاد من الله تعالى لنبيّه ألا يضيق صدره بتبليغ الوحي والرّسالة، وألا يثنيه شيء عن دعوتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر ١٥/ ٩٧].

(١) وذلك مثل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦] أي لئلا تضلّوا.

صفحة رقم 33

ثم أكّد الله تعالى مهمّة نبيّه فقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ... أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك، غير مبال بما يقولون، ولا آت بما يقترحون، ولك أسوة بإخوانك من الرّسل قبلك، فإنهم كذّبوا وأوذوا، فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ، والله هو الرّقيب على عباده، الحفيظ للأمور، فتوكّل عليه، ولا تبال بهم، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أعمالهم. وهذا كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢]، وقوله تعالى: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢]، وقوله تعالى:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق ٥٠/ ٤٥].
ثم أبان الله تعالى إعجاز القرآن الكريم بدليل تحدّي العرب به، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. أي بل يقول مشركو مكة: افترى محمد القرآن أي اختلقه من عند نفسه، فإن كان ما يزعمون صحيحا، فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات، تضارعه في الفصاحة والبلاغة، وإتقان الأحكام والتّشريعات في شؤون الحياة المختلفة من سياسة واجتماع واقتصاد ونظام تعامل، والإخبار بقصص الأنبياء والغيبيات، وهم أهل السّبق في البيان والتّفوق في ملكة اللسان. والمختار عند أكثر المفسّرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة، وقيل: بسبب الأسلوب، وقيل: بسبب عدم التناقض، وقيل: بسبب اشتماله على العلوم الكثيرة، وقيل:
بسبب إخباره عن المغيبات.
ولكنهم عجزوا لأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، بل ولا بأقصر سورة من مثله لأن كلام الرّب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء.
وهذه الآية اشتملت على خطابين: خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:
قُلْ: فَأْتُوا.. ، وخطاب الكفار بقوله: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ...

صفحة رقم 34

ثم قال الله تعالى بعد هذا التّحدي: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ.. أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن القرآن نزل من عند الله، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه، وتشريع بأمره ونهيه لا يبلغون مستواه. وجاء ضمير لَكُمْ بصيغة الجمع لأنه خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله تعالى.
واعلموا أنه لا إله موجود ومعبود بحقّ إلا الله عزّ وجلّ.
فهل أنتم بعد قيام الحجة القاطعة على أنه، أي القرآن، من عند الله مسلمون، مؤمنون بالله وبهذا القرآن، وبما تضمنه من عقائد ووعد ووعيد وأخلاق وآداب ونظام شامل للحياة؟ وهذا يدلّ على أن الخطاب للكفار، فإن كان الخطاب للمسلمين فمعناه: فهل أنتم مخلصون؟
ومعنى هذا أنه بعد ظهور الدّليل القاطع على صدق النّبي صلى الله عليه وسلّم وصدق القرآن، يكون كفرهم مجرد عناد وإعراض واستكبار.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- وجوب تبليغ الوحي بكامله دون إنقاص أو إرجاء شيء منه، ولا يتنافى هذا الحكم مع مبدأ عصمة الرّسول صلى الله عليه وسلّم عن الخيانة في الوحي والتّنزيل، وترك بعض ما يوحى إليه، وهذا كقوله تعالى في تأكيد الأمر بإبلاغ الوحي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة ٥/ ٦٧].
وهذا الحكم لا يختلف سواء قلنا: إن معنى الكلام في آية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ.. الاستفهام الإنكاري أي هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما

صفحة رقم 35
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية