والآخرة، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» إذ صدق به بعض قومه وكذبه آخرون كما فعل قومك معك فلا تضجر من تكذيبهم فلك أسوة بمن قبلك «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب عن منكري حقك لأجل معلوم عندنا محدود لا يبدل ولا يغير «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» حال تكذيبهم وكذلك الأمم السابقة فقد أمهلوا لانقضاء آجالهم المعينة عندنا «وَإِنَّهُمْ» لا يزالون «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» بأنه أي القرآن بدليل سبق كتاب موسى عليه السلام بأنه من عند الله منزل عليك أو أنهم في شك «مُرِيبٍ ١١١» من نزول العذاب بهم وقد أوقعهم هذا الشك في الرية بنزوله وتوهموا عدم صحته
«وَإِنَّ كُلًّا» من الفريقين المختلفين المصدق منهم والمكذب (والتنوين في كلا يسمى تنوين العوض لأنه عوض عن المضاف) «لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ» أي والله ليوفينهم جزاء أعمالهم فاللام فيه للقسم فيثبب المصدق الجنة والمكذب النار، ولما هنا بمعنى إلا مثلها في قوله تعالى في الآية ٤ من سورة الطارق المارة في ج ١ وهي (كل نفس لما عليها حافظ) وقرىء لما بالتنوين بمعنى جميع مثلها في قوله تعالى (أكلا لمّا) الآية ١٩ من سورة الفجر المارة في ج ١ أيضا، وقد تكون ظرفا بمعنى حين وعليه يكون المعنى وإن كلا حين يبعثوا ليوفينهم جزاء أعمالهم دون حاجة إلى الإثبات «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١٢» لا يخفى عليه شيء من عملهم، وفي هذه الآية وعد وبشارة للمصدقين ووعيد وتهديد للمكذبين.
مطلب في الاستقامة والتقوى والورع وما يتفرع عنهما:
قال تعالى يا سيد الرسل «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» من الاستقامة التي أمرناك بها لا تعدل عنها قيد شعرة فهي طريق توفيقك لما وعدناك به من النصر والظفر وهذا أمر تأكيدي بطلب المثابرة والدوام على الحالة الأولى كقولك للقائم قم حتى آتيك، أي دم على ما أنت عليه «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» وآمن بك وبما أنزل عليك، فعليهم أيضا أن يلازموا الاستقامة ويداوموا عليها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.
وروى مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم. فالاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق، كالتقوى فإنها كلمة جامعة لكل خير، وكالورع فإنها كلمة جامعة لكل بر، فالاستقامة تشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه ﷺ وبين سائر المؤمنين، بل وبين الخلق أجمع، وتشمل الأمور الخاصة به عليه السلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقالوا إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل لأحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى، ونفي الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بالشيء الموجود غير المدرك الذي يكون بين ضوء الشمس والظل، فإنه ليس بشمس ولا ظل، بل هو أمر فاصل بينهما، ولعمري إن ذلك لدقيق، راجع الآية ٢٥ من سورة الفرقان في ج ١ ولذلك قالوا لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية، ثم عصم بالتثبت بالحق. قال تعالى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية ٧٥ من الإسراء في ج ١، وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أرق من الشعرة واحد من السيف إشارة إلى هذا النهج المتوسط، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال ﷺ شمروا شمروا، وما رئي بعدها ضاحكا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله ﷺ آية أشد من هذه الآية ولا أشق.
واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله ﷺ شيبتني هود.
كما أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبل. وذلك لأن مبنى هذه السورة على إرشاده تعالى شأنه نبيه ﷺ إلى كيفية الدعوة من مبدئها إلى آخرها، وإلى ما يعزى لمن تصدى لهذه المرتبة العظيمة من الشدائد، واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد، وهي أي هذه السورة الجليلة جامعة لإرشاده ﷺ من مفتتح أمره إلى مختتمه، وهذه الآية كالفذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد، وخاف من عدم
القيام بأعبائها، حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسّه نصيب من السؤال عنها، فذكر القيامة في تلك السور أي هود وإخوتها كآل حميم وغيرها، يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له فيها، وقد كررت الجملة الأولى من هذه الآية في الآية ١٤ من سورة الشورى الآتية، وهذا لا ينافي عصمته عليه السلام وقربه من ربه، لكونه الأعلم بالله والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة، فكأنها هي المشيبة له من بينها، ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة والله أعلم. وسنأتي على تتمة هذا البحث في الآية الآتية إن شاء الله ثم خاطب جل خطابه الخلق أجمع بقوله «وَلا تَطْغَوْا» أيها الناس فتخرجوا عن حدود الله، ولا تعلوا في الدين أيها المؤمنون فتتجاوزوا عما أمرتم به ونهيتم عنه فتغلبوا ولا تخالفوا أيها الناس أوامر الله فتعصوه في شيء ما، ولا تنحرفوا بإفراط ولا تفريط، فكلاهما ذميم، وسماء الله طغيانا تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله ﷺ «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١٣» قال ابن عباس ما نزلت آية على رسول الله أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها الحافة والواقعة والنبأ والغاشية والمرسلات وكورت وآل حم، لكثرة ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار. واعلم أن هذه الآية الكريمة تؤذن بوجوب اتباع المنصوص عليه من الأحكام الشرعية دون انحراف، وان أعمال العقل الصرفة بما يخالف المشروع طغيان وضلال، أما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص الشرعية فهو من باب الاستقامة بمقتضى النصوص الآمرة بالاجتهاد.
مطلب الزجر عن مخالطة الظالم وأن الدين بين لامين والآية المدنية والصلوات الخمس:
قال تعالى «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بمخالطتهم، أي لا تميلوا أيها المؤمنون إلى الظالمين، ولا تحبوهم، ولا ترضوا بأعمالهم المؤدية إلى غضب الله ولا تطيعوهم فيما يخالف دينكم، فإنكم إن فعلتم شيئا من هذا «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» وتذيب أعضاءكم بحرها، لأن الركون إليهم رضا بأعمالهم التي قد تؤدي إلى الكفر،
ولا شك أن الرضا بالكفر كفر، والمحبة للشيء إلحاق به. قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية ٣٥ من التوبة في ج ٣، قال الحسن: جعل الله الدّين بين لامين (ولا تطغوا ولا تركنوا). وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك، لأنهم يداهنونهم ويسكنون عن مظالمهم. وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وقال صلى الله عليه وسلم: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه. وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء، فقال لا، فقيل له إنه يموت، فقال دعه يموت. أي إن كان انقضاء أجله معلق على عدم إعطائه هذه الشربة فدعه يموت وإلا فلا يموت وله شيء في الدنيا حتى نسمة الهواء إلا يستوفيها، فقد جعله رحمه الله أدنى حالا من أدنى حيوان، إذ النصوص الشرعية تقضي على من عنده ماء واحتاج للوضوء به وعنده كلب ظمآن بأن يسقي ما عنده من الماء ذلك الكلب ويتيمم بالتراب، إذ في كل كبد حراء أجر، وذلك اجتهاد من سفيان رضي الله عنه، وهو أن بقاء الحيوان لا ضرر فيه على أحد، وأن بقاء الظالم فيه ضرر، ولهذا رجح الحيوان عليه.
وروي عن الموفق أبي أحمد بن طلحة العباسي، أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له ما بالك؟ فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم نفسه! لذلك ينبغي هجرهم وعدم التزيي بزيهم، وعدم زيارتهم، لما فيها من تعظيم، وهو حرام، وينبغي لمن لا يخاف من شرهم أن يهبنهم ولا يجالسهم إلا لمعذرة شرعية، ولقضاء مصلحة من لا ناصر له. هذا، واعلم أن خطاب الله تعالى حضرة رسوله بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبت عليها والتأكيد على ملازمتها لأنه من مقتضاها. والحث على الدوام والثبات عليها من واجبات المسلمين لبعضهم وعلى بعضهم، وانه يجب على كل فرد أن يتحلى بها في بيعه وشرائه، وأكله وشربه، ولبسه ومحبته، ومع أصحابه، وسائر معاملاته مع ربه وأهله والناس أجمعين، فإن الدين المعاملة أي حسنها وسلامتها من الشوائب، لأن المراد من جملتها عماد الدين حسن المعاملة، كما أن الدين النصيحة لله ولرسوله والناس أجمعين، لأن المعاملة والنصيحة جزء عظيم من أمور الدين لا معظمه، مثل الحج عرفة،
لأن الوقوف بعرفات معظم الحج، وبغيره لا يسقط الفرض، بل هذا من قبيل الناس تميم، والمال الإبل، والطعام اللحم، إلى غير ذلك، فإذا تحلّى العاقل بالصفات المارة في معنى الاستقامة دخل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الآية ٣٠ من فصلت الآتية، فمثل هؤلاء يموتون ميتة سعيدة هنيئة، ويخاطبون ربهم دلالا، فيقولون له يا ربنا ما حال أولادنا بعدنا؟ فيقال لهم «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
عليهم نتولاهم بذاتنا بعدكم «وَفِي الْآخِرَةِ»
نتولاكم وإياهم في جنتنا» (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)
من جميع الملاذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ)
من كل ما تريدونه وتقر أعينكم به، قال تعالى «وَما لَكُمْ» إذا لم تستقيموا على الطاعة والعمل الصالح وتجتنبوا الطغيان والركون إلى الظلمة «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يمنعونكم من عذابه إذا حل بكم في الدنيا والآخرة «ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ١١٤» أبدا ولا تظفرون بمطلوبكم ولا تفوزون بنجاح مهماتكم، ولا شك أن هذا الخطاب مقصود به المؤمنون كما ذكر آنفا، وأنه تغليظ أو تغليب لحال المؤمنين عليه ﷺ وإلا فهو معصوم من الطغيان ومن الركون إلى الظلمة والظلم كليته وجزئه.
وهذه الآية المدنية الأخيرة من هذه السورة قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» غدوة وعشية، فدخل فيها الصبح والظهر والعصر «وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» أقرب ساعاته وزلف بمعنى قرب فيدخل فيه المغرب والعشاء «إِنَّ الْحَسَناتِ» التي أعظمها الصلوات الخمس «يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» على اختلاف أنواعها بمنه وكرمه إذا شاء وأراد «ذلِكَ» إشارة إلى قوله استقم فما بعده «ذِكْرى» عظيمة لمن يتذكر وعظة كبيرة لمن يتعظ في مغزى الأمرين والنّهيين المارين وفيها نفع جليل «لِلذَّاكِرِينَ ١١٥» الله تعالى في جميع أحوالهم، لأن ذكر الله يمنع من مخالفته.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، وفي رواية أصاب منها كل شيء إلا الجماع، فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك فنزلت هذه الآية، وكانت هذه الحادثة في المدينة، فقال الرجل هو هو أبو اليسر الأنصاري يا رسول الله الي هذه الآية؟ قال لمن عمل بها من أمتي. وفي رواية قال رجل
من القوم يا نبي الله هذه له خاصة؟ قال بل للناس كافة. وهذا مما يؤيد أن الأسباب لا تقيد الآيات فإنها وإن نزلت بمعين فمعناها يبقى عاما شاملا غيره.
هذا وما ذكرناه قبلا بمناسبة الآيات المدنيات بأنها كالعترضة قبلها وبين ما بعدها لا يمنع أن تشير إلى ما قبلها من الآيات كهذه، لأنها لم تأت إلا لمناسبة، وكذلك الآيات المكيات في السور المدنيات، وكذلك بين السور. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن.
زاد في رواية: ما لم يغش الكبائر. وزاد في أخرى: ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. وروى البخاري عن جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات.
قال الحسن وما يبقى من الدرن. وروى الترمذي عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ أنه قال:
اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
وقال العلماء الصلوات والأعمال الصالحة تكفر الذنوب الصغائر، استنباطا من هذه الأحاديث. أما الآية فهي عامة للصنفين، إلا أن جمهور العلماء خصّوها بالصغائر، وقالوا أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح. وسنأتي على ذكرها في سورة التحريم في ج ٣ إن شاء الله تعالى القائل «وَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل على أذى قومك وما تلاقيه منهم وعلى القيام بما أمرت به من الاستقامة وأداء ما افترضته عليك، وأحسن لمن أساء إليك «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ١١٦» لأنفسهم ولربهم بالإحسان إلى عباده والناس أجمعين، بل يجازيهم عليه جزاء حسنا وافيا. وانظر رعاك الله إلى بلاغة هذه الآيات الجليلة (وكل آياته جليلة، إلا أن بعضها أبلغ من بعض، كما أن منها الحسن والأحسن) راجع الآية ٥ من سورة يوسف والآية ٥٥ من الزمر الآتيتين، كيف أفرد بخطابه جل خطابه أوامر أفعال الخير لحضرة الرسول، وإن كانت في المعنى عامة له ولأمته، وجمع أوامر النهي لصرفها لامته تعظيما لشأنه وإجلالا لقدره، وكل منها يفيد المعنى المطلوب. قال تعالى «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ» الذين أهلكناهم «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أمة
محمد، وكلمة لولا للتحضيض وكذلك أخواتها لوما ولو وأما ولما وإذا وكلما، وكل منها يقيد الشرط ويحتاج للجواب، لكنها لا تجزم، وكلمات التحضيض كهذه تختص بالمضارع، وكذلك أحرف العرض كألا وأما، أما إذا كانت للتوبيخ والتذميم فتختص بالماضي كقوله تعالى (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وقوله (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) الآيتين ١٢/ ١٦ من سورة النور في ج ٣، وغيرها كثير في القرآن أما كلما ولما فلا تدخلان إلا على الماضي هذا واسم كان المارة «أُولُوا بَقِيَّةٍ» من فضل وخير وتقى ورأي سديد وعقل رشيد، وأطلقت البقية على هذه الألفاظ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فيصطفيه لنفسه ويدخره، ومن هنا يقال فلان من بقية القوم أي خيارهم، وعليه فسّر بيت الحماسة:
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم | فما على مذنب عندكم فوت |
ظَلَمُوا)
الآية ١٦٥ من الأعراف في ج ١ «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ» من النعم وترفهوا فيه من الشهوات وحب الرياسة، ورفضوا الأمر بالمعروف ونبذوا النهي عن المنكر، وأعرضوا عن حق الله فجعلوه ظهريا. والترف التوسع في النعمة، وقد يتعدى به إلى ما لا يحل، قال تعالى (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها)
الآية ١٦ من الإسراء في ج ١ «وَكانُوا مُجْرِمِينَ ١١٧» بعملهم ذلك فحكم الله عليهم بالعذاب لارتكابهم الجرائم وأعظمهم الكفر. قال تعالى «وَما كانَ رَبُّكَ» يا سيد الرسل «لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» منه والتنوين للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ويراد منه تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه، وإلا فلا ظلم منه أصلا فيما يفعله بعباده، كائنا ما كان لما علم مما مر من قاعدة أهل السنة والجماعة الملمع إليها في الآية ٩٢ من سورة يونس المارة وفي مواضع كثيرة في الجزء الأول.
مطلب لا يجوز نسبة الظلم إلى الله وأن الأمر غير الإرادة:
واعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى الله تعالى بوجه من الوجوه، لأن ذلك محال، قال صاحب الزبد:
وله أن يؤلم الأطفالا | ووصفه بالظالم استحالا |
الملك يبقى مع الكفر والمعاصي، ولا يبقى مع الظلم والجور. وهذان أي قول الفقهاء والمثل مأخوذان مما رواه الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال سمعت رسول الله ﷺ يسأل عن تفسير هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ) إلخ، فقال: وأهلها ينصف بعضهم بعضا. وأخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا، ولم أقف على صحته. قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ» يا أكرم الرسل «لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد وشريعة واحدة، لكنه جل أمره لم يشأ، كما أنه تعالى قال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الآية ١٣ من سورة السجدة الآتية، ولكنه لم يشأ أيضا، إذ لا يفعل أحد الطاعة إلا بمشيئته ورضاه، ولا يقدر على فعل المعصية إلا بمشيئته وقضاه، ولهذا قال «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» باعتقادهم أديانا شتى وشرائع مختلفة وعبادات متباينة «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» منهم، فإنهم يتفقون على دين واحد وعبادة واحدة وشريعة واحدة، كما يأمرهم نبيهم وكتابهم المنزل إليه من ربهم «وَلِذلِكَ» لأجل بقائهم مختلفين «خَلَقَهُمْ» ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير كما هو في علمه الأزلي، لأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه، والتعذيب والإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا في الآخرة إلى أن التعذيب والإثابة اللذين هما من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب والمثاب في نفسه، ومن هنا قالوا إن المعصية والطاعة أمّارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيان لها، فيندفع قول القائل بأنه إذا كان خلقهم لذلك فلم يعذبهم، واستدل في هذه الآية على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان به من كل، وأن ما أراده سبحانه بحسب وقوعه، وقدمنا في الآية ١٢ من سورة يونس المارة ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. وذكر بعض العارفين أن منشأ تشبيب سورة هود له ﷺ اشتمالها على أمره بالاستقامة على الدعوة مع إخباره بأنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف، وأنه لا يشاء اجتماعهم على دين واحد، وقد حقت «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» على ذلك الوجه، ونفذ قضاؤه بالوعد للسعداء بالجنة، والوعيد للأشقياء
صفحة رقم 168