والروايات التي ورد فيها فأنزل عليه هذه الآية، في الإمكان أن تؤول أن المراد أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل، ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب سوى الكبائر.
هذا، ثم ختم- سبحانه- هذه التوجيهات الحكيمة بقوله وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
أى: واصبر أيها الرسول الكريم أنت ومن معك من المؤمنين على مشاق التكاليف التي كلفكم الله- تعالى- بها، فإنه- سبحانه- لا يضيع أجر من أحسن عملا، بل موفى الصابرين أجرهم بغير حساب.
قال الآلوسى: ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي ﷺ وإن كانت عامة في المعنى، والمناهي جمعت للأمة، للدلالة على عظم منزلة الرسول ﷺ عند ربه «١».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآيات الدالة على سنن الله- تعالى- في خلقه، وعلى الحكم التي من أجلها ساق الله- تعالى- تلك القصص في كتابه فقال- تعالى-:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١٢٣]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
وقوله- تعالى- فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ... إرشاد إلى أن الأمم إذا خلت من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حلت بها المصائب والنكبات..
ولولا: حرف تحضيض بمعنى هلا. والمقصود بالتحضيض هنا تحذير المعاصرين للنبي ﷺ ومن يأتى بعدهم من الوقوع فيما وقع فيه أهل القرون الماضية من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى لا يصيب اللاحقين ما أصاب السابقين.
والقرون: جمع قرن، والمراد به الأمة من الناس الذين يجمعهم زمان واحد، والراجح أن القرن مائة عام.
وأُولُوا بَقِيَّةٍ أى: أصحاب مناقب حميدة، وخصال كريمة، وعقول راجحة...
وأصل البقية: ما يصطفيه الإنسان لنفسه من أشياء نفيسة يدخرها لينتفع بها، ومنه قولهم:
فلان من بقية القوم، أى: من خيارهم وأهل الفضل فيهم، قال الشاعر:
إن تذنبوا ثم تأتينى بقيتكم... فما على بذنب منكم فوت
وفي الأمثال: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا.
والفساد في الأرض: يشمل ما يكون فيها من المعاصي واختلال الأحوال وارتكاب المنكرات والبعد عن الصراط المستقيم.
والمعنى: فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين كانوا من قبلكم، رجال أصحاب خصال كريمة، وعقول سليمة، تجعلهم هذه الخصال وتلك العقول ينهون أنفسهم وغيرهم عن الإفساد
في الأرض، وعن انتهاك الحرمات؟.
كلا إنهم لم يكن فيهم هؤلاء الرجال الذين ينهون عن الفساد في الأرض، إلا عددا قليلا منهم أنجيناهم بسبب إيمانهم ونهيهم عن الفساد في الأرض.
وفي هذا من التوبيخ لأهل مكة ولكل من تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما فيه، لأن الله- تعالى- بين أن عذاب الاستئصال الذي حل بالظالمين السابقين، كان من أسبابه عدم نهيهم عن الفساد في الأرض.
قال الشوكانى: والاستثناء في قوله إِلَّا قَلِيلًا... منقطع، أى: لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، وقيل: هو متصل، لأن في حرف التحضيض معنى النفي، فكأنه قال: ما كان في القرون أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا قليلا ممن أنجينا منهم، ومن في قوله مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ بيانية، لأنه لم ينج إلا الناهون» «١».
وقال ابن كثير: ولهذا أمر الله- تعالى- هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأولئك هم المفلحون، وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده» ولهذا قال: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ... «٢».
وقوله: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ... إشارة إلى أن هؤلاء القاعدين عن النهى عن الإفساد في الأرض، قد استمروا على فجورهم وفسقهم دون أن يلتفتوا إلى خصال الخير، وإلى سبيل الصلاح.
وأترفوا من الترف ومعناه التقلب في نعم الله- تعالى- مع ترك شكره- سبحانه- عليها.
والمترف: هو الشخص الذي أبطرته النعمة، فانغمس في الشهوات والمعاصي، وأعرض عن الأعمال الصالحة...
والجملة الكريمة معطوفة على كلام مقدر يقتضيه الكلام، والمعنى: أن هؤلاء الذين لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا من استثنى، قد استمروا في طغيانهم، واتبعوا ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات العاجلة، فكفروا النعمة، واستكبروا وفسقوا عن أمر ربهم، وكانوا قوما مجرمين، أى مصرين على ارتكاب الجرائم
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٠.
والمنكرات، فحق عليهم العقاب الذي يستحقونه بسبب هذه السيئات.
ثم بين- سبحانه- أن رحمته بعباده تقتضي عدم ظلمه لهم فقال: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ.
والمراد بالظلم هنا ما يشمل الإشراك بالله- تعالى- وغيره من الوقوع في المعاصي والمنكرات.
والباء في بِظُلْمٍ للملابسة، والتنوين فيه للإشعار بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم يتنزه الله- تعالى- عنه على أبلغ وجه، وإن كانت أفعاله- عز وجل- لا ظلم فيها أيا كانت هذه الأفعال.
والمعنى: وما كان من شأن ربك- أيها الرسول الكريم- أن يهلك أهل قرية من القرى إهلاكا متلبسا بظلم منه لها، والحال أن أهلها قوم مصلحون، لأن ذلك الإهلاك مع تلك الحال يتنافى مع ما كتبه على نفسه من الرحمة والعدل.
قال- تعالى- كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ | وقال- تعالى- وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً. |
ومنهم من فسر الظلم هنا بالشرك، وجعل الباء للسببية، فيكون المعنى: ليس من شأن ربك أن يهلك أهل قرية من القرى بسبب كفرهم وحده، مع صلاحهم في تعاطى الحقوق فيما بينهم، وإنما يهلكهم عند ما يضمون إلى الكفر الإفساد في الأرض كما أهلك قوم شعيب لشركهم وإنقاصهم المكيال والميزان.
وقد ساق ابن جرير- رحمه الله- القولين دون أن يرجح بينهما فقال: القول في تأويل قوله- تعالى- وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ.
يقول- تعالى- ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها والتي قص عليك نبأها ظلما وأهلها مصلحون في أعمالهم غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم ظلما، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيهم..
وقد قيل معنى ذلك: لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله: وذلك قوله بظلم يعنى بشرك، وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين، وإنما يهلكهم إذا تظالموا» «١».
والذي نراه أن القول الأول أقرب إلى الصواب، لأن حمل الظلم هنا على الشرك تخصيص بدون مخصص، حيث لم يرد عن رسول الله ﷺ حديث صحيح يخصصه بذلك، فوجب حمل الظلم على معناه الحقيقي الذي يتناول الشرك وغيره.
ثم أخبر- سبحانه- بأن قدرته لا يعجزها شيء فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً.
والأمة: القوم المجتمعون على أمر واحد يقتدى فيه بعضهم ببعض، وهذا اللفظ مأخوذ من «أم» بمعنى قصد، لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شئونه.
ولو شرطية امتناعية، ومفعول فعل المشيئة محذوف والتقدير:
ولو شاء ربك- أيها الرسول الكريم الحريص على إيمان قومه- أن يجعل الناس جميعا أمة واحدة مجتمعة على الدين الحق لجعلهم، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، ليتميز الخبيث من الطيب، وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً....
وقوله- سبحانه- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى....
وقوله وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ تأكيد لما اقتضته سنته من اختلاف الناس.
أى: ولا يزالون ما بقيت الدنيا مختلفين في شأن الدين الحق، فمنهم من دخل فيه وآمن به، ومنهم من أعرض عنه، إلا الذين رحمهم ربك منهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم من أول الأمر، فإنهم لم يختلفوا، بل اتفقوا على الإيمان بالدين الحق فعصمهم الله- تعالى- من الاختلاف المذموم.
قال الإمام ابن كثير: وقوله إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أى: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي ﷺ الأمى خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه ونصروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا: إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة. وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة. قالوا: ومن هم يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابى» «١».
واسم الإشارة في قوله وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ يعود على المصدر المفهوم من مختلفين قال الآلوسى: فكأنه قيل: وللاختلاف خلق الناس، على معنى لثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم.
واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله- سبحانه- وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ولأنهم لو خلقهم له- أى للاختلاف- لم يعذبهم على ارتكاب الباطل... » «١».
ومنهم من جعل الإشارة إلى الرحمة لأنها أقرب مذكور، فيكون التقدير: إلا من رحم ربك ولرحمته- سبحانه- خلق الناس.
وصح تذكير اسم الإشارة مع عودته إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقى.
ومنهم من جعل الإشارة إلى مجموع الاختلاف والرحمة، لأنه لا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أى بين الفارض والبكر.
فيكون المعنى: «وللاختلاف والرحمة خلقهم» أى أنه- سبحانه- خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف.
وقد رجح الإمام القرطبي هذا الوجه فقال: قوله «ولذلك خلقهم» قال الحسن ومقاتل وعطاء:
الإشارة إلى الاختلاف، أى: وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك:
الإشارة إلى الرحمة: أى: ولرحمته خلقهم.
وقيل: الإشارة إلى الاختلاف والرحمة، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين، كما في قوله- تعالى- وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً.
وهذا أحسن الأقوال- إن شاء الله- لأنه يعم. أى: ولما ذكر خلقهم.. أى: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. أى خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة... » «٢».
والمراد بكلمة ربك في قوله- سبحانه- وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قضاؤه النافذ، وإرادته التي لا تتخلف، وحكمه الأزلى.
(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١١٥.
أى: وتمت كلمة ربك، ونفذ قضاؤه، وثبت حكمه الذي أكده وأقسم عليه بقوله: لأملأن جهنم من عصاة الجن، ومن عصاة الإنس أجمعين، لأنه من المعروف أن الوعيد إنما هو للعصاة والمذنبين وليس للمؤمنين الصادقين.
قال الآلوسى: وفي معنى ذلك ما قيل من أن المراد بالجنة والناس أتباع إبليس لقوله- تعالى- في سورة الأعراف وفي سورة ص لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم، والقرآن يفسر بعضه بعضا... » «١».
ثم بين- سبحانه- أهم الفوائد التي تعود على الرسول ﷺ من وراء إخباره بأحوال الأنبياء السابقين مع أقوامهم فقال: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ....
والتنوين في قوله وَكُلًّا للعوض عن المضاف إليه. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الهام:
أى: وكل نبأ من أنباء الرسل الكرام السابقين نقصه عليك- أيها الرسول الكريم- ونخبرك عنه. فالمقصود به تثبيت قلبك، وتقوية يقينك، وتسلية نفسك ونفوس أصحابك عما لحقكم من أذى في سبيل تبليغ دعوة الحق إلى الناس.
وقوله- سبحانه- وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ بيان لما اشتملت هذه السورة الكريمة من أخبار صادقة، وعظات بليغة.
أى وجاءك- أيها الرسول الكريم- في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن الكريم: الحق الثابت المطابق للواقع، والعظات الحكيمة، والذكرى النافعة للمؤمنين بما جئت به.
وأما الذين في قلوبهم مرض فقد زادتهم هذه السورة وأمثالها رجسا إلى رجسهم، وماتوا وهم كافرون.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ بالسير في طريق الحق بدون مبالاة بتهديد أعدائه فقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ والأمر في هذه الآية الكريمة للتهديد.
ومكانتكم: مصدر مكن- بزنة كرم- مكانة، إذا تمكن من الأمر أبلغ التمكن.
أى: وقل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين الذين يضعون العقبات في طريق
دعوتك، قل لهم اعملوا ما تستطيعون عمله من الكيد لي ولدعوتى، فإنى وأصحابى مستمرون على السير في طريق الحق الذي هدانا الله إليه، بدون التفات إلى كيدكم وقل لهم- أيضا-: انتظروا ما يأتى به الله من عقاب، فإنا منتظرون معكم ذلك.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة فقال: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أى: ولله- تعالى- وحده علم جميع ما غاب عن الحواس في السموات والأرض، وإليه وحده يرجع الأمر كله من إحياء وإماتة، وهداية وضلال، وصحة ومرض، ونصر وهزيمة.
وما دام الأمر كذلك فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أى: فأخلص له العبادة، واجعل توكلك عليه وحده.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل هو مطلع وبصير بأعمال عباده جميعا، لا يعزب عنه مثقال ذرة منها، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
أما بعد: فهذا تفسير لسورة هود- عليه السلام- أسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المدينة المنورة- صباح الخميس ٥ من جمادى الآخرة سنة ١٤٠١ هـ الموافق ٩ من أبريل سنة ١٩٨١ م.
محمد سيد طنطاوى
تفسير سورة يوسف
صفحة رقم 297
تعريف بسورة يوسف- عليه السلام-
١- سورة يوسف- عليه السلام- هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقها في الترتيب سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود..
أما ترتيبها في النزول، فكانت السورة الثالثة والخمسين، وكان نزولها بعد سورة هود- عليه السلام-.
وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية.
وجه تسميتها بهذا الاسم ظاهر، لأنها مشتملة على قصته- عليه السلام- مع إخوته، ومع امرأة العزيز، ومع ملك مصر في ذلك الوقت..
ولم يذكر اسم يوسف- عليه السلام- في غير هذه السورة سوى مرتين: إحداهما في سورة الأنعام في قوله- تعالى- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ... الآية ٨٤.
والثانية في سورة غافر في قوله- تعالى- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ...
الآية ٣٤.
والقول الصحيح أن سورة يوسف جميعها مكية، ولا التفات إلى قول من قال بأن فيها آيات مدنية، لأن هذا القول لا دليل عليه.
قال الآلوسى: سورة يوسف مكية كلها على المعتمد، وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكية إلا ثلاث آيات من أولها. واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله- تعالى-:
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ.
٢- وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه، وما اعتمدناه- كغيرنا- من أنها كلها مكية- هو الثابت عن الحبر أى عن ابن عباس» «١».
٣- وقد ورد في سبب نزولها روايات متعددة، منها ما روى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: أنزل القرآن على رسول الله ﷺ فتلاه على أصحابه زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا فنزلت سورة يوسف... » «١».
٤- طبيعة الفترة التي نزلت فيها هذه السورة: قلنا إن سورة يوسف كان نزولها بعد سورة هود، وسبق أن بينا عند تفسيرنا لسورة هود، أن هذه السورة الكريمة كان نزولها- على الراجح- في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج..
ويبدو أن سورة يوسف- أيضا- كان نزولها في هذه الفترة، التي تعتبر من أشق الفترات في حياة النبي ﷺ إذ تعرض خلالها للكثير من أذى المشركين، بعد أن فقد ﷺ في هذه الفترة عمه أبا طالب، وزوجه السيدة خديجة- رضى الله عنها.
ونزول سورة يوسف في هذه الفترة، كان من أعظم المسليات التي واسى الله- تعالى- بها نبيه ﷺ فقد أخبره عما دار بين يوسف وإخوته، وعما تعرض له هذا النبي الكريم من مصائب وأذى...
ولا شك أن في قصة يوسف وما يشبهها، تسلية للرسول ﷺ عما أصابه من قومه.
٥- والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل، يراها قد اشتملت على أوضح الدلائل، وأنصع البراهين، التي تشهد بأن هذا القرآن من عند الله...
فقد قصت علينا قصة يوسف- عليه السلام- مع إخوته ومع غيرهم بأسلوب مشوق حكيم، يهدى النفوس، ويشرح الصدور، ويكشف عن الخفايا التي لا يعلمها أحد إلا الله- تعالى-، ويصور أحوال النفس الإنسانية تصويرا بديعا معجزا...
كما يراها قد ساقت ما ساقت من حكم وأحكام، وعبر وعظات، بأسلوب يمتاز بحسن التقسيم، وجمال العرض، حتى إننا لنستطيع أن نقسم أهم الموضوعات التي تحدثت عنها إلى عشرة أقسام.
(أ) أما القسم الأول «٢» منها، فنراها تتحدث فيه عن جانب من فضائل القرآن الكريم، وعن رؤيا يوسف- عليه السلام- وعن نصيحة أبيه له بعد أن قصها عليه...
(٢) الآيات من ١- ٦.
قال- تعالى- الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
(ب) وفي القسم الثاني «١» منها نراها تحدثنا عن مكر إخوة يوسف به، وحسدهم له، وتآمرهم على الانتقام منه وإجماعهم على أن يلقوا به في الجب، وتنفيذهم لذلك بعد خداعهم لأبيهم، وزعمهم له بأنهم سيحافظون على أخيهم يوسف...
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البديع المعجز فيقول: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
إلى أن يقول- سبحانه-: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
(ج) ثم نراها في القسم الثالث «٢» منها تحدثنا عن انتشال السيارة ليوسف من الجب، وعن بيعهم له بثمن بخس دراهم معدودة، وعن وصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه، وعن محنته مع تلك المرأة التي راودته عن نفسه وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ وعن خروجه من هذه المحنة بريئا، نقى العرض، طاهر الذيل... بعد أن شهد ببراءته شاهد من أهلها.
قال- تعالى-: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ، وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً....
إلى أن يقول- سبحانه-: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ....
(٢) الآيات من ١٩- ٢٩.
ثم يختم- سبحانه- هذا القسم من السورة بحكاية ما قاله الزوج لامرأته وليوسف، بعد أن تبين له صدق يوسف وكذب امرأته فيقول: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
(د) ثم تحدثنا السورة بعد ذلك في القسم الرابع «١» منها عن شيوع خبر امرأة العزيز مع فتاها، وعما فعلته تلك المرأة مع من أشاع هذا الخبر، وعن لجوء يوسف- عليه السلام- الى ربه يستجير به من كيد هؤلاء النسوة...
قال- تعالى- حاكيا هذا المشهد بأسلوب معجز: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ.
(هـ) ثم تحدثنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم «٢» الخامس منها، عن يوسف السجين المظلوم، وكيف أنه لم يمنعه السجن من دعوة رفاقه فيه إلى وحدانية الله، وإلى إخلاص العبادة له- سبحانه-...
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
(و) ثم تحدثنا السورة الكريمة في القسم «٣» السادس منها عن الرؤيا المفزعة التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت، وكيف أن حاشيته عجزت عن تفسيرها، ولكن يوسف الصديق فسرها تفسيرا صحيحا أعجب الملك، وحمله على دعوته للالتقاء به، إلا أن يوسف- عليه السلام-
(٢) الآيات من ٣٦- ٤٢.
(٣) الآيات من ٤٣- ٥٧. [.....]
أبى الالتقاء به إلا بعد أن يحقق الملك في قضيته بنفسه، ويعلن براءته على رءوس الأشهاد...
وبعد أن استجاب الملك لطلب يوسف، وثبتت براءته- عليه السلام- حضر معززا مكرما وقال للملك بعزة وإباء: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المشهد بأسلوبها الزاخر بالمحاورات والمفاجآت، فتقول: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ....
وينتهى هذا المشهد ببيان سنة من سنن الله- تعالى- التي لا تتخلف، والتي تتمثل في حسن عاقبة المؤمنين حيث يقول- سبحانه-: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ.
(ز) ثم تنتقل السورة الكريمة في القسم السابع «١» منها إلى الحديث عن اللقاء الأول الذي تم بين يوسف وإخوته، بعد أن حضروا من بلادهم بفلسطين إلى مصر يلتمسون الزاد والطعام | وكيف أنه عرفهم دون أن يعرفوه.. وكيف أنه- عليه السلام- طلب منهم بعد أن أكرمهم أن يحضروا إليه من بلادهم ومعهم أخوهم من أبيهم- وهو شقيقه «بنيامين». |
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ....
(ح) ثم حدثتنا السورة الكريمة في القسم الثامن «١» منها عن اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وإخوته، بعد أن حضروا إليه في هذه المرة ومعهم «بنيامين» شقيق يوسف، وكيف قام يوسف بالتعرف عليه، ثم كيف احتجزه عنده بحيلة دبرها بإلهام من الله- تعالى- وكيف رد على إخوته الذين طلبوا منه أن يأخذ أحدهم مكان «بنيامين»...
وماذا قال «يعقوب» - عليه السلام- بعد أن عاد إليه أبناؤه، وليس معهم «بنيامين».
استمع الى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المشاهد والأحداث فتقول:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ....
وينتهى هذا القسم بقول يعقوب- عليه السلام- لأبنائه بعد أن عادوا إليه وليس معهم أخوهم بنيامين: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
(ط) ثم حدثتنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم التاسع «٢» منها عن اللقاء الثالث والأخير بين يوسف وإخوته، فحكت لنا أن يوسف- عليه السلام- كشف لإخوته عن نفسه في هذا اللقاء. وأمرهم بأن يذهبوا بقميصه ليلقوا به على وجه أبيه... كما أمرهم أن يعودوا إليه ومعهم جميع أهلهم.
(٢) الآيات من ٨٨- ١٠١.
كما حكت لنا لقاء يوسف بأبويه، وإكرامه لهما، وشكره لله- تعالى- على ما وهبه من نعم..
قال- تعالى- حاكيا ما دار بين يوسف وإخوته، وبين يوسف وأبيه في هذا اللقاء:
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ...
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
ثم ختم- سبحانه- قصة يوسف بهذا الدعاء الذي حكاه- سبحانه- عنه في قوله:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
(ى) أما القسم العاشر «١» والأخير من السورة الكريمة، فقد كان تعقيبا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام، ومن عبر وعظات، ومن آداب وهدايات...
وقد بين- سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله، وما يشهد بصدق النبي ﷺ فيما يبلغه عن ربه..
كما بين- سبحانه- وظيفة الرسول ﷺ وموقف المشركين من دعوته وأنه ﷺ ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين.
قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ....
ثم يختتم- سبحانه- هذه السورة الكريمة بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
٦- هذا عرض مجمل لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة يوسف- عليه السلام- ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتى:
(أ) إبراز الحقائق والهدايات، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات... ومن مظاهر ذلك:
المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه، والتي منها قوله- تعالى-: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف، والتي منها قوله- تعالى-: قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ.
والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته، بعد أن عرفهم وهم له منكرون، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد... والتي منها قوله- تعالى-:
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات. تارة بين يوسف وإخوته، وتارة بين إخوته فيما بينهم، وتارة بينهم وبين أبيهم، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت.
وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها، ليصل الى الموضوع الذي يليه.
وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم، وعلى تدبر معانيه، وعلى الانتفاع بهداياته..
(ب) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها.. أما تفاصيل هذه الأحداث. فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنته، وسلامة تفكيره، وحسن تدبره لكلام الله- تعالى-..
وهذا اللون من العرض للأحداث، يسمى في عرف البلغاء، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ.
فمثلا قوله- تعالى-: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ... معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق.
والتقدير: وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم «جاءوا على قميصه بدم كذب» لكي يخدعوا أباهم، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ....
وكذلك قوله- تعالى-: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ... مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات.
والتقدير: وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عند ما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ.
بعد أن سمع يوسف كل ذلك، وتيقن من مكرهن به، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ....
وأيضا قوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ.... يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف، إذ تقدير الكلام:
وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك، وقالوا له: إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، قال الذي نجا منهما، أى: من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أى وتذكر بعد نسيان طويل أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا- وهو يوسف- فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف، فذهب إليه في السجن، فلما دخل عليه قال له: يا يوسف يا أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان... إلخ.
وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف، من شأنه
أنه ينشط العقول، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار..
وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء الله- تعالى-. والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره.
فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال، وهو أصل البلاغة وركنها الركين.
(ج) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها، وفي حال صلاحها وانحرافها، وفي حال غناها وفقرها، وفي حال عسرها ويسرها، وفي حال صفائها وحقدها..
وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم، وسلوكهم، وميولهم، وأفكارهم... وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه.
(ا) فيوسف- عليه السلام- وهو الشخصية الرئيسية في القصة- حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله، أن نرى له- عليه السلام- مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتى:
١- امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات، بسبب خوفه لمقام ربه، ونهيه لنفسه عن الهوى...
ولا أدل على ذلك من قوله- تعالى-: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ...
قال الشيخ القاسمى: قال الإمام ابن القيم ما ملخصه: «لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة...
ومنها: أنه كان شابا غير متزوج.. ومنها: أنها كانت ذات منصب وجمال.. وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة... بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد..
ومنها: أنه كان في دارها وتحت سلطانها.. فلا يخشى أن تنم عليه..
ومنها: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن، وشكت حالها إليهن...
ومنها: أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به..
ومنها: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يجعله يفرق بينه وبينها...
ومع كل هذه الدواعي، فقد آثر يوسف مرضاة الله ومراقبته، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن على ارتكاب ما يغضبه... » «١».
٢- صبره الجميل على المحن والبلايا، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ...
٣- نشره للدين الحق، ودعوته لعبادة الله وحده، حتى وهو بين جدران السجن، فهو القائل لمن معه في السجن: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ، أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ....
٤- حسن تدبيره للأمور، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضرها ويعرضها للهلاك، قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ...
٥- عزة نفسه، وسمو خلقه، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ...
٦- تحدثه بنعمة الله، ومعرفته لنفسه قدرها، وطلبه المنصب الذي يناسبه، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
٧- ذكاؤه وفطنته، فقد تعرف على إخوته مع طول فراقه لهم: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ....
٨- عفوه وصفحه عمن أساء إليه قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ...
٩- وفاؤه لأسرته ولعشيرته اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
١٠- شكر الله- تعالى- على نعمه ومننه رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
هذا جانب من حديث السورة الكريمة عن يوسف- عليه السلام-، وهو حديث يدل على أنه كان في الذروة العليا من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم..
(د) وتحدثت السورة الكريمة عن يعقوب- عليه السلام- فذكرت من بين ما ذكرت عنه، صفات الصبر الجميل، والأمل في رحمة الله مهما اشتدت الخطوب، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم...
يدل على ذلك قوله- تعالى- وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.
وقوله- تعالى-: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً....
وقوله- تعالى-: وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ....
وقوله- تعالى-: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
(هـ) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا، تبدو فيه غيرتهم من يوسف، وحسدهم له، وتآمرهم على حياته، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم... ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن الله له في الأرض...
نرى ذلك في مثل قوله- تعالى-: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ...
وفي قوله: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ.
وفي قوله- سبحانه-: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ....
وفي قوله- تعالى-: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ.
(و) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عند ما تحب.. وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية | وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها. حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له.. |
فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك | تسلية للرسول ﷺ ولأصحابه عما أصابهم من أعدائهم، وتسرية لقلوبهم وتطمينا لنفوسهم. |
كذلك أنت يا محمد ستخرج من بلدك مكة مهاجرا | ثم تعود إليها في الوقت الذي يشاؤه الله ظافرا منتصرا «١». |
وبعد: فهذا تعريف لسورة يوسف، رأينا أن نسوقه قبل البدء في تفسيرها، لعله يعين على فهم ما اشتملت عليه من حكم وأحكام. ومن عبر وعظات..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم د. محمد سيد طنطاوى