آيات من القرآن الكريم

كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ

إثبات التوحيد بثبوت الربوبية لدى المشركين
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
الإعراب:
أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أن وصلتها: يجوز كونها في موضع نصب وجر ورفع، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بأنهم أو لأنهم، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه، والجر:
بأن يجعل حرف الجر في نية الإثبات، وإنما حذف للتخفيف، والرفع على أن يكون بدلا من كَلِمَةُ.
البلاغة:
فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ استفهام إنكاري، أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى، وقع في الضلال.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم، وهو تعميم بعد تخصيص.
فَذلِكُمُ الفعال لهذه الأشياء الْحَقُّ الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي ليس بعد عبادة الله التي هي الحق إلا الضلال والانحراف فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تصرفون عن الحق أي الإيمان إلى غيره مع قيام البرهان؟

صفحة رقم 162

كَذلِكَ حَقَّتْ أي كما صرف هؤلاء عن الإيمان ثبتت كلمة ربك أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا كفروا، وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أو هي أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جناية المشركين على أنفسهم باتخاذهم الأنداد والشركاء، ذكر أدلة فساد مذهبهم وهو عبادة الأوثان، وإذا فسد مذهبهم ثبت التوحيد، بدليل إقرارهم بأن الرازق ومالك الحواس، والمحيي والمميت هو الله تعالى، فهو سبحانه يحتج على المشركين باعترافهم بوحدانية الله وربوبيته على وحدانية الألوهية.
التفسير والبيان:
قل أيها النبي لمشركي مكة وأمثالهم: من ذا الذي ينزل من السماء المطر، فيكون سببا في إثبات الأرض بالزرع والزهر والشجر، فيخرج منها حبا وعنبا وقضبا (البرسيم) وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا متشابكة وفاكهة كثيرة ونحو ذلك؟ كقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ [الملك ٦٧/ ٢١] فهي مصدر رزقكم، بسبب بركات السماء والأرض، فيرزقكم منهما جميعا، دون اقتصار على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته.
ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وغيرهما من الحواس، فيملك خلقها وتسويتها على نحو بديع وتحصينها من الآفات، ومن الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها؟ كقوله تعالى:
قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك ٦٧/ ٢٣] فهي وسائل العلم والمعرفة وإدراك ما في هذا العالم.
وخص السمع والبصر لأنهما أهم الحواس، وأداة تحصيل العلوم.

صفحة رقم 163

ومن الذي بقدرته العظيمة أمر الحياة والموت؟ فيحيي ويميت، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، مثل إخراج النخلة من النواة والطائر أو الحيوان من البيضة أو النطفة، وعكس ذلك كإخراج الحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه من الشجر والحيوان، وفي هذا دلالة عامة على إيجاد أمارات الحياة والموت، وعلامة الحياة في النبات: النمو، وفي الحيوان: النمو والحركة الإرادية.
وفسر بعضهم الحياة والموت بالشيء المعنوي وهو إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون من المفسرين يفسرون الآية بالمعنى الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، كما قال الرازي.
وإذا كان المفسرون قد مثلوا للحي بالنطفة وللميت بالبيضة، فهم يلاحظون الوضع الظاهر المشاهد للناس عادة وهي حياة الحركة والنمو، وهذا لا ينفي ما يقوله الآن علماء الأحياء بأن في البذور والبيض والمني والنطفة حياة أي حياة الخلية، لكن هذه حياة خاصة لا حركة فيها ولا نمو.
ويمكن التمثيل في العلم الحديث لإخراج الميت من الحي بما يطرحه البدن من الخلايا الميتة في الدم والجلد فيخرج مع البخار والعرق، ومثال إخراج الحي من الميت الغذاء الذي يحرق بالنار، ثم يتناوله الإنسان فيتولد منه الدم.
وإذا قال هؤلاء العلماء الجدد: الحي لا يخرج إلا من حي، فإنهم يقررون أن الحياة الأولى هي من خلق الله بدون أي شك.
وعلى أي حال فإن المقصود من الآية إثبات القدرة الكاملة لله تعالى وأنه خالق الموت والحياة، أيا كان المثال لأن إطلاق النص القرآني وعمومه يمكن تطبيقه على ما يقره العلم.
ومن الذي يدبر أمور العالم وبيده ملكوت كل شيء، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟.

صفحة رقم 164

هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، وأن يجيبوا بأن الموجد والمعدم هو الله تعالى، بلا تردد ولا شك، ومن غير مكابرة وعناد في ذلك، لفرط وضوح الأمر، ولأنه لا جواب في الواقع غيره.
وإذا اعترفوا بالحقيقة، فقل لهم أيها الرسول عندئذ: أفلا تتقون أنفسكم عقاب الله بإشراككم إياه وعبادتكم غيره، مما لا يشاركه في شيء من ذلك، ولا يملك ضرا ولا نفعا.
فذلكم الذي يتصف بما ذكر من القدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله خالقكم ومربّيكم على فضله ومدبر أموركم، وهو المستحق للعبادة، وهو ربكم الثابت ربوبيته بذاته، لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، فلا إله غيره، ولا معبود سواه.
وإذا كان الله هو ربكم الحق الثابت بذاته، فليس بعد القول الحق والفعل الحق إلا الضلال والباطل، ولا واسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال.
فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي كما حقت الربوبية لله والألوهية لله، حقت أي ثبتت كلمة الله وحكمه أو وعيده على الذين فسقوا أي تمردوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم، وخرجوا عن دائرة الحق والصلاح وتوحيد الربوبية والألوهية، أنهم لا يؤمنون، أي حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان وأن إيمانهم غير كائن. ويجوز أن يراد بالكلمة الوعيد بالعذاب، ويكون قوله أَنَّهُمْ

صفحة رقم 165

لا يُؤْمِنُونَ
تعليلا للحقية، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون «١». ويلاحظ أن الآية صرحت باليأس من إيمان الذين فسقوا وأصروا على كفرهم، ولم تذكر غيرهم لأن من لم يصرّ يرجى إيمانه وتخلصه من العذاب إذا آمن وأطاع، فلا مانع أمامه، كما أنه ليس هناك أي مانع قهري يمنع من إيمان أي كافر، وإنما هو الذي يمتنع باختياره من الإيمان، ويصرّ على الكفر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وجعل ابن كثير الآية الأخيرة كَذلِكَ حَقَّتْ في المشركين أنفسهم، فقال: أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرزاق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده، فلهذا حقت عليهم أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٧١] «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا نقاش منطقي هادئ مع المشركين، فإنهم إن سئلوا عن الرازق والخالق والمحيي والميت والمدبر، فلا يسعهم إلا الاعتراف بأنه هو الله رب الخلائق قاطبة، وهذا اعتراف صريح منهم بوحدة الربوبية، فلم لا يعترفون بوحدة الألوهية، وإنما يشركون مع الله إلها آخر؟! والمنطق يقضي بالتسوية بين الأمرين والإقرار بوحدة الربوبية والألوهية، فتكون الآية دالة على إثبات التوحيد.

(١) الكشاف: ٢/ ٧٤
(٢) تفسير ابن كثير: ٢/ ٤١٦

صفحة رقم 166

ودلت الآية على ما يأتي:
١- الله تعالى هو الرزاق، المتصرف في الملك والخلق والإيجاد وحده، المحيي، المميت، المدبر أمر الكون والعالم.
٢- من كانت هذه قدرته ورحمته ويفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه، لا ما أشركتم معه: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ. وبما أن الله تعالى هو الحق المبين، وجب أن يكون ما سواه ضلالا لأن النقيضين لا يجتمعان، فإذا كان أحدهما حقا، وجب أن يكون ما سواه باطلا: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال؟
وبناء عليه، قال العلماء: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى. ويقاس عليها مسائل الأصول، الحق فيها واحد لا يتعدد، بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة ٥/ ٤٨]
وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات».
وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام إلى صلاة التهجد قال: «اللهم لك الحمد»
وفي الحديث: «أنت الحق ووعدك الحق..»
فقوله: «أنت الحق»
أي الواجب الوجود، وهذا وصف لله تعالى بالذات والحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، بخلاف غيره، كقوله تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص ٢٨/ ٨٨].
ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية، وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا، كما في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ

صفحة رقم 167

الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
[الحج ٢٢/ ٦٢]. وحقيقة الضلال:
الذهاب عن الحق.
٣- احتج الإمام مالك على تحريم اللعب بالشّطرنج والنّرد بقوله تعالى:
فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فقال: اللعب بالشطرنج والنّرد من الضلال.
وقد اختلف العلماء في حكم اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار، فقال جمهور الفقهاء: إن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به، مرة في الشهر أو العام، لا يطّلع عليه ولا يعلم به: أنه معفوّ عنه، غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن اشتهر به سقطت مروءته وعدالته، وردّت شهادته.
وذهب الشافعي إلى أنه لا تسقط شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج إذا كان عدلا في غير ذلك، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا، سقطت عدالته، وسفّه نفسه لأكله المال بالباطل.
وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد وكل اللهو، فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة، وكانت محاسنه أكثر من مساويه، قبلت شهادته.
٤- العاقل يلتزم المعقول، لذا استنكر الله تعالى على المشركين الخروج عن دائرة المعقول بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟ أي كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر، وكيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟! ٥- علم الله قديم واسع الإحاطة، والعذاب حق وعدل ومعلوم سابقا في علم الله تعالى على الذين أصروا على الكفر وماتوا وهم كفار لقوله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي ثبت حكمه وقضاؤه وعلمه السابق على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا أنهم لا يصدقون، أو ثبت عليهم استحقاق العذاب والوعيد به لأنهم لا يؤمنون.

صفحة رقم 168
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية