
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ مَا أُودِعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ ذِي السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، وَيَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، إِلَّا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُ وَالْمُشْرِكُونَ بِاللهِ تَعَالَى أَقَلُّ النَّاسِ تَذَكُّرًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ يَلْجَئُونَ إِلَى مَظِنَّةِ الْأَسْبَابِ الْمَوْهُومَةِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَعْبُودَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهَا سُلْطَانًا غَيْبِيًّا فَوْقَ الْأَسْبَابِ، مِنْ جِنْسِ سُلْطَانِ الرَّبِّ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ إِمَّا لِذَاتِهَا وَإِمَّا بِمَا لَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللهِ، وَالْمَثَلُ مَضْرُوبٌ هُنَا لِهَؤُلَاءِ.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ
يُقَالَ: ((فَإِذَا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ)) ؛ إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلشَّرْطِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ لَا فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لِلْآيَةِ كَشْفَ الضُّرِّ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَاقِعًا مُشَاهَدًا مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَيَرَى مَا يَفْعَلُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ. أَيْ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ الَّذِي دَعَانَا لَهُ فِي حَالِ شُعُورِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ كَشْفِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، مَرَّ وَمَضَى فِي شُئُونِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ رَبِّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَأَنَّ الْحَالَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، وَلَمْ نَكْشِفْ عَنْهُ ضُرَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ كَهَذَا النَّحْوِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِهِ وَحْدَهُ فِي الشِّدَّةِ، وَنِسْيَانِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ بَعْدَ كَشْفِهَا، زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مِنْ طُغَاةِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ عِنَادِهِمْ لِلرَّسُولِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَنِ اسْتَعْجَلُوهُ بِالْعَذَابِ؛ وَالْإِسْرَافُ رَدِيفُ الطُّغْيَانِ وَأَخُوهُ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ عَشْرِ آيَاتٍ بِبَيَانٍ أَبْلَغَ.
وَقَدْ أُسْنِدَ التَّزْيِينُ هُنَا إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعِبْرَةِ دُونَ فَاعِلِهِ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ ٣: ١٤ وَالْأَنْعَامِ ٦: ٤٣ وَالتَّوْبَةِ ٩: ٣٧ وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنْفَالِ، وَأُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (١٠٨) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ رَاجِعْ ص ٥٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ شَأْنَهُ فِي النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ مَعَهُ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ وَطُغْيَانِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ؛ لِيَعْتِبَرَ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْقِلُهُ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَسِيرَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ بِمِصْدَاقِهِ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ فَقَالَ عَاطِفًا لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الْخِطَابُ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وُجِّهَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى قَوْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ وَطَنِهِ مَكَّةَ إِذْ أُنْزِلَتِ السُّورَةُ فِيهَا، فَهُوَ الْتِفَاتٌ يُفِيدُ مَزِيدَ التَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهَ أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَوْضُوعِهِ، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهُوَ جَمْعُ قَرَنٍ بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَبَدَأَ هَذِهِ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّامِ " وَلَقَدْ " وَصَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (١٨: ٥٩) وَلَمَّا ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١١: ١٠٢) وَقَدْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ دُونَ الْهَمَجِ.
وَإِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِالظُّلْمِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) هُوَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَلِاسْتِيلَاءِ الْقَوِيَّةِ مِنْهَا عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتِيلَاءً مُوَقَّتًا، إِنْ كَانَ إِفْسَادُ الظُّلْمِ لَهَا عَارِضًا لَمْ يُجْهِزْ عَلَى اسْتِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ وَاسْتِعَادَتِهَا لِلِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (٢: ٢٤٣) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ دَائِمًا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحَيَاةِ حَتَّى تَنْقَرِضَ أَوَ تُدْغَمَ فِي الْغَالِبَةِ. كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) (٢١: ١١) الْآيَاتِ - وَهَذَا النَّوْعُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلظُّلْمِ بِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: ظُلْمُ الْأَفْرَادِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأَبْدَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَخْلَاقِ، وَظُلْمُ الْحُكَّامِ الَّذِي يُفْسِدُ بَأْسَ الْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ دَائِمَةٌ فِي الْأُمَمِ، وَلَهَا حُدُودٌ وَمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَأَحْوَالِ أَعْدَائِهَا، هِيَ آجَالُهَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ (٤٩) الْآتِيَةِ وَأَمْثَالِهَا.
(ثَانِيهِمَا) عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْأَقْوَامِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا رُسُلًا لِهِدَايَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ الْعَدْلُ، فَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَنْذَرُوهُمْ عَاقِبَةَ
الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ بَعْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا