آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

يُقَابِلَ التَّعْجِيلَ بِالتَّعْجِيلِ، وَالِاسْتِعْجَالَ بِالِاسْتِعْجَالِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجِيلَهُ لَهُمُ الْخَيْرَ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ مَوْضِعَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الْخَيْرَ إِشْعَارًا بِسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ وَإِسْعَافِهِ بِطَلَبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ تَعْجِيلٌ لَهُمْ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ حَقِيقَةُ قَوْلِكَ عَجَّلْتُ فُلَانًا طَلَبْتَ عَجَلَتَهُ، وَكَذَلِكَ عَجَّلَتُ الْأَمْرَ إِذَا أَتَيْتَ بِهِ عَاجِلًا، كَأَنَّكَ طَلَبْتَ فِيهِ الْعَجَلَةَ وَالِاسْتِعْجَالُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَوْ أَرَادَ اللَّه عَجَلَةَ الشَّرِّ لِلنَّاسِ كَمَا أَرَادُوا عَجَلَةَ الْخَيْرِ لَهُمْ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ عَجَّلَ شَيْئًا فَقَدْ طَلَبَ تَعْجِيلَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُعَجِّلًا كَانَ مُسْتَعْجِلًا، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ، وَلَوِ اسْتَعْجَلَ اللَّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِتَكْوِينِ الْعَجَلَةِ وَوَصَفَهُمْ بِطَلَبِهَا، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِهِ تَعَالَى هُوَ التَّكْوِينُ وَاللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الطَّلَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى سمى العذاب شرا في هذه الآية، لأن أَذًى فِي حَقِّ الْمُعَاقَبِ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَهُ كَمَا أَنَّهُ سَمَّاهُ سَيِّئَةً فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: ٦] وَفِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ لَقَضَى بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ أَجَلَهُمْ بِالنَّصْبِ، يَعْنِي لَقَضَى اللَّه، وينصره قراءة عبد اللَّه لقضينا إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ أَجَلُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُرَادُ مِنِ اسْتِعْجَالِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْخَيْرَ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ يَدْعُونَ اللَّه تَعَالَى بِكَشْفِهَا، وَقَدْ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّمْلِ: ٥٣] وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يونس: ١٢].
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: كَيْفَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا بِمَا قَبْلَهُ وَمَا مَعْنَاهُ؟.
وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى نَفْيِ التَّعْجِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَلَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ فَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ أَيْ فَيُمْهِلُهُمْ مَعَ طُغْيَانِهِمْ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالطُّغْيَانِ وَالْعَمَهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَنْقَلِبَ خَبَرُ اللَّه الصدق كذبا وعلمه جهله وَحُكْمُهُ بَاطِلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ هَذَا كَلَّفَهُمْ وَذَلِكَ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى التكليف بالجمع بين الضدين.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ الْعَذَابَ

صفحة رقم 219

عَلَى الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا لَهَلَكَ وَلَقُضِيَ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ ضَعْفِهِ وَنِهَايَةِ عَجْزِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ لَمَاتَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ وَالِاسْتِعْجَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِالْإِنْسَانِ أَدْنَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي إِزَالَتِهِ عَنْهُ/ وَفِي دَفْعِهِ عَنْهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ صَادِقًا فِي هَذَا الطَّلَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَلِيلُ الصَّبْرِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، قَلِيلُ الشُّكْرِ عِنْدَ وِجْدَانِ النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ أَقْبَلَ عَلَى التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ مُضْطَجِعًا أَوْ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ طَالِبًا مِنَ اللَّه تَعَالَى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمحنة، فَإِذَا كَشَفَ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ بِالْعَافِيَةِ أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ ذَلِكَ الضُّرَّ وَلَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ الْإِنْعَامِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّه تَعَالَى لِكَشْفِ ضُرِّهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَشِدَّةِ اسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَذْمُومَةٌ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ شَاكِرًا عِنْدَ الْفَوْزِ بِالنَّعْمَاءِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فِي أَوْقَاتِ الرَّاحَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ حَتَّى يَكُونَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فِي وَقْتِ الْمِحْنَةِ،
عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الْكَرْبِ وَالشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ عِنْدَ الرَّخَاءِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَةُ أُمُورٍ: فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى غَيْرَ مُعْتَرِضٍ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَلِكٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي مُلْكِهِ وَمِلْكِهِ مَا شَاءَ كَمَا يَشَاءُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ أَبْقَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْمِحْنَةَ فَهُوَ عَدْلٌ، وَإِنْ أَزَالَهَا عَنْهُ فَهُوَ فَضْلٌ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَالسُّكُوتُ وَتَرْكُ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنِ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنِ الدُّعَاءِ كَانَ أَفْضَلَ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»
وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالذِّكْرِ اشْتِغَالٌ بِالْحَقِّ، وَالِاشْتِغَالَ بِالدُّعَاءِ اشْتِغَالٌ بِطَلَبِ حَظِّ النَّفْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ، ثُمَّ إِنِ اشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ إِزَالَتُهُ صَلَاحًا فِي الدِّينِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ رَاجِحًا عِنْدَهُ عَلَى الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَزَالَ عَنْهُ تِلْكَ الْبَلِيَّةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَالِغَ فِي الشُّكْرِ وَأَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْ ذَلِكَ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَحْوَالِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الصَّحِيحُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ. وَهَاهُنَا مَقَامٌ آخَرُ أَعْلَى وَأَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ قَالُوا: إِنَّ مَنْ كَانَ فِي وَقْتِ وِجْدَانِ النِّعْمَةِ مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ لَا بِالْمُنْعِمِ كَانَ عِنْدَ الْبَلِيَّةِ مَشْغُولًا بِالْبَلَاءِ لَا بِالْمُبْلِي، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يَكُونُ أَبَدًا فِي الْبَلَاءِ، أَمَّا فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْبَلَاءِ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ حُصُولِ النَّعْمَاءِ فَإِنَّ خَوْفَهُ مِنْ/ زَوَالِهَا يَكُونُ أَشَدَّ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْمَلَ وَأَلَذَّ وَأَقْوَى وَأَفْضَلَ، كَانَ خَوْفُ زَوَالِهَا أَشَدَّ إِيذَاءً وَأَقْوَى إِيحَاشًا، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ كَانَ أَبَدًا فِي لُجَّةِ الْبَلِيَّةِ أَمَّا مَنْ كَانَ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ مَشْغُولًا بِالْمُنْعِمِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ مَشْغُولًا بِالْمُبْلِي.
وَإِذَا كَانَ الْمُنْعِمُ وَالْمُبْلِي وَاحِدًا، كَانَ نَظَرُهُ أَبَدًا عَلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ مَطْلُوبُهُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّغَيُّرِ مُقَدَّسًا عَنِ

صفحة رقم 220

التَّبَدُّلِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ وَفِي وَقْتِ النَّعْمَاءِ، غَرِقًا فِي بَحْرِ السَّعَادَاتِ، وَاصِلًا إِلَى أَقْصَى الْكَمَالَاتِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيَانِ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْأَثَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْكَافِرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ وَقَالَ: كُلُّ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ، فَالْمُرَادُ هُوَ الْكَافِرُ، وهذا باطل، لأن قوله:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الِانْشِقَاقِ: ٦، ٧] لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ دَاخِلٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الدَّهْرِ: ١] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:
١٦] فَالَّذِي قَالُوهُ بَعِيدٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ نَقُولَ: اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ حُكْمُهُ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الْإِجْمَالِ وَالتَّعْطِيلِ. وَلَفْظُ الْإِنْسَانَ هَاهُنَا لَائِقٌ بِالْكَافِرِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَذْكُورَ لَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذِكْرُ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ فَقَوْلُهُ: لِجَنْبِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِدَلِيلِ عَطْفِ الْحَالَيْنِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا.
فَإِنْ قَالُوا: فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ؟
قُلْنَا: مَعْنَاهُ: إِنَّ الْمَضْرُورَ لَا يَزَالُ دَاعِيًا لَا يَفْتُرُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الضُّرُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَعْدِيدًا لِأَحْوَالِ الضُّرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا دَعَانَا وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الدُّعَاءِ أَقْرَبُ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ ذِكْرِ الضُّرِّ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَحْوَالٌ لِلدُّعَاءِ يَقْتَضِي مُبَالَغَةَ الْإِنْسَانِ فِي الدُّعَاءِ، ثُمَّ إِذَا تَرَكَ الدُّعَاءَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ أَعْجَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: مَرَّ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَضَى عَلَى طَرِيقَتِهِ الْأُولَى/ قَبْلَ مَسِّ الضُّرِّ وَنَسِيَ حَالَ الْجُهْدِ. الثَّانِي: مَرَّ عَنْ مَوْقِفِ الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ تَقْدِيرُهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُنَا، ثُمَّ أَسْقَطَ الضَّمِيرَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا [يُونُسَ: ٤٥] قَالَ الْحَسَنُ: نَسِيَ مَا دَعَا اللَّه فِيهِ، وَمَا صَنَعَ اللَّه بِهِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : قَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ إِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا كَشَفْنا وَهَذَا لِلْمَاضِي، فَهَذَا النَّظْمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ هَكَذَا كَانَ فِيمَا مَضَى وَهَكَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَدَلَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَاضِي، وَأَقُولُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ مُسَاعِدٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ لأن

صفحة رقم 221
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية