
قبره، صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار».
وما على المؤمن إلا أن يستزيد من الأعمال الصالحة ليتبوأ مكانه في الجنة، إذ ليست الجنة بمجرد الاتصاف بالإسلام، أو بالتمنيات المعسولة، كما قال تعالى:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء ٤/ ١٢٣- ١٢٤] والنقير: قدر النّقرة في ظهر النواة.
والإيمان: هو المعرفة والهداية المترتبة عليها. والمقصود: معرفة صفات الله تعالى، لا معرفة ذاته فذلك مستحيل.
والأعمال الصالحة: عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة. والأعمال المذمومة ضدّ ذلك.
استعجال الإنسان الخير دائما والشرّ حال الغضب
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)

الإعراب:
اسْتِعْجالَهُمْ منصوب على المصدر، تقديره: استعجالا مثل استعجالهم. فحذف المصدر وصفته، وأقام ما أضيفت إليه الصفة مقامه.
لِجَنْبِهِ في موضع نصب على الحال، وعامله دَعانا وقيل: العامل: مسّ، أي مسّ الإنسان مضطجعا أو قاعدا أو قائما، والأول أرجح.
كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا مخففة من الثقلية واسمها محذوف أي كأنه، وحذف ضمير الشأن.
البلاغة:
الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم، ففيه تشبيه مؤكد مجمل. وبين الشرّ والخير طباق. ووضع الاستعجال موضع التعجيل لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير.
المفردات اللغوية:
يُعَجِّلُ يقدمه على وقته، والتعجيل: تقديم الشيء على وقته المقدر له.
اسْتِعْجالَهُمْ طلب التعجيل، قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ بأن يهلكم ولكن يمهلهم، وقضاء الأجل: انتهاؤه. فَنَذَرُ نترك. فِي طُغْيانِهِمْ الطغيان: مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان. يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين. الضُّرُّ الشدة كالمرض والفقر والخطر. لِجَنْبِهِ أي مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً في كل حال. مَرَّ مضى في طريقته على كفره. كَذلِكَ أي كما زين له الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء. لِلْمُسْرِفِينَ المشركين، والإسراف: تجاوز الحد.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة، ثم ذكر أدلة التوحيد والبعث، أبان هنا الجواب عن قول كانوا يقولونه: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ومضمون الجواب: أنه لا مصلحة لهم في استعجالهم الشر وإلا ماتوا وهلكوا.

وأما مضمون الجواب عن تعجبهم: فهو أني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد، وقد أقمت الأدلة على صحتها، فلا معنى للتعجب من نبوتي.
التفسير والبيان:
العجلة من طبائع الإنسان، فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه، ويتعجل الشّر حين الغضب والحماقة والضجر، فلو يعجل أو يسرع الله للناس إجابة دعائهم في حال الشر، كاستعجالهم تحقيق الخير، لأميتوا وأهلكوا، وذلك مثل استعجال مشركي مكة إنزال العذاب عليهم، كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ
[الرعد ١٣/ ٦] وقال سبحانه: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
وسمى الله تعالى العذاب شرّا في هذه الآية لأنه أذى في حق المعاقب، ومكروه عنده، كما أنه سماه سيئة في قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ.. وفي قوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠].
ولكنه تعالى بحلمه ولطفه بعباده لا يستجيب لهم ويذرهم إمهالا لهم واستدراجا، فإنه لو أجابهم لانتهى أمرهم وهلكوا، كما هلك الذين كذبوا الرسل، وربما آمن به بعضهم، أما من عاند فيعاقبه الله بالقتل، كما قال تعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ١٤].
وأما عذاب سائر الكفار فنتركه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي فنترك غير المتوقعين لقاءنا فيما هم فيه من طغيان الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين، ولا نعجل لهم في الدنيا عذاب الاستئصال تكريما للنبي صلى الله عليه وسلّم، ونمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.

وكذلك اقتضت رحمته تعالى بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر، في حال الضجر والغضب لأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك.
روى أبو داود والحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة، فيستجيب لكم»
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: «إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه».
ومن عجلة الإنسان أيضا وضجره وقلقه أنه إذا أصابه الضرّ أي الشدة والألم من مرض أو فقر أو خطر: يدعو ربه بإلحاح في كشف ضره وإزالته، حالة كونه مضطجعا لجنبه، أو قاعدا أو قائما وفي جميع أحواله لأن فائدة الترديد في القعود وغيره تعميم الدعاء لجميع الأحوال، فإذا فرّج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء، ومضى في طريقه من الغفلة عن ربه والكفر به، كأنه لم يدع إلى شيء ولم يكشف الله عنه ضره.
فقوله: إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أي إلى كشف ضر.
وذلك كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت ٤١/ ٥١]، ثم قال تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي مثل ذلك العمل القبيح المنكر أو التزيين وهو الذي حدث من اللجوء إلى الله تعالى وقت الشدة وتركه في الرخاء، زيّن للمشركين طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك والإعراض عن القرآن والعبادات، واتباع الشهوات.
والمراد بالإنسان في قوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ هو الكافر لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.

وقوله: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً يراد به أحوال الدعاء.
والمراد بالمزين في قوله: زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ هو الشيطان أو النفس، أو الله تعالى. وسمي الكافر مسرفا في نفسه وماله ومضيعا لهما لأنه في النفس جعلها عبدا للوثن، وفي المال فلأنه أضاعه فيما لا يفيد. والأصح كما قال القرطبي أن الآية تعم الكافر وغيره، وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته العافية، استمر على ما كان عليه من المعاصي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الآتي:
١- الله لطيف بعباده حليم رحيم بهم لا يستجيب دعاءهم على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال الضجر والغضب، فلو عجل الله للناس العقوبة، كما يستعجلون الثواب والخير، لماتوا لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وذلك على عكس خلقهم يوم القيامة لأنهم حينئذ يخلقون للبقاء.
فالآية ذامّة خلقا ذميما في بعض الناس، يدعون في الخير، فيريدون تعجيل الإجابة، ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشرّ، فلو عجّل لهم لهلكوا.
ومن حكمة الله تعالى أن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم قومه العرب وآخرون من الأمم، ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة، وهذا معنى قوله: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ...
٢- لا يعجل الله للناس الشر، فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. وقد رحم الله تعالى العالم كله بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فرفع عن الأمم عذاب الاستئصال لأنه رحمة للعالمين.
٣- الإنسان في جميع حالاته الاضطرارية لا يجد ملجأ أمامه سوى الله تعالى