آيات من القرآن الكريم

وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا
ﮝﮞﮟ

فَعَلَى هَذَا مَعْنَى دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ، أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَعَمَّهُمْ كَالشَّيْءِ الَّذِي يُلَطَّخُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: تَقُولُ لِلشَّيْءِ: يُدْفَنُ دَمْدَمْتُ عَلَيْهِ، أَيْ سَوَّيْتَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ، فَسَوَّى عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ فَجَعَلَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: دَمْدَمَ غَضِبَ، وَالدَّمْدَمَةُ الْكَلَامُ الَّذِي يُزْعِجُ الرَّجُلَ وَرَابِعُهَا: دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أَرْجَفَ الْأَرْضَ بِهِمْ رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَوَّاها يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا الدَّمْدَمَةَ بِالْإِطْبَاقِ وَالْعُمُومِ، كَانَ مَعْنَى فَسَوَّى/ الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ وَعَمَّهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَلَاكَهُمْ كَانَ بِصَيْحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الصَّيْحَةُ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا، فَاسْتَوَتْ عَلَى صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالتَّسْوِيَةِ، كَانَ المراد فسوى عليهم الأرض. أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (٩١) : آية ١٥]
وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)
فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى إِذْ هُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَخَافُ تَبِعَةً فِي الْعَاقِبَةِ إِذِ الْعُقْبَى وَالْعَاقِبَةُ سَوَاءٌ، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَقٍّ. وَكُلُّ مَا فَعَلَ مَا يَكُونُ حِكْمَةً وَحَقًّا فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِهَذَا الْفِعْلِ، أَيْ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْشَى فِيهِ عَاقِبَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجِلُّ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَلِكٍ يَخْشَى عَاقِبَةً، فَإِنَّهُ يَتَّقِي بَعْضَ الِاتِّقَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنَ الْعَوَاقِبِ، لَا جَرَمَ مَا اتَّقَى شَيْئًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ صَالِحٍ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ أَيْ وَلَا يَخَافُ صَالِحٌ عُقْبَى هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ وَذَلِكَ كَالْوَعْدِ لِنُصْرَتِهِ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْهُ لَوْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ أَنْ يُؤْذِيَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا:
الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَشْقَى الَّذِي هُوَ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ فِيمَا أَقْدَمَ مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ وَلا يَخافُ عُقْباها وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً لَكِنَّهَا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي حُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عَقْرِهَا وَهُوَ كَالْآمَنِ مِنْ نُزُولِ الْهَلَاكِ بِهِ وَبِقَوْمِهِ ففعل مع هذا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ فِعْلُ مَنْ لَا يَخَافُ الْبَتَّةَ، فَنُسِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ،
وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَلَمْ يَخَفْ)
وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ فَلَا يَخَافُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
رُوِيَ أَنَّ صَالِحًا لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ: هَلُمُّوا فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَأَعْجَلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ. فَأَتَوْهُ ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار، فلما أبطئوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ صَالِحٍ، فَوَجَدُوهُمْ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ ثُمَّ هَمُّوا بِهِ فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ لَبِسُوا السِّلَاحَ وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ قَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كان صادقا زدتم ربكم عليكم غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَصْبَحُوا وُجُوهَهُمْ مُصْفَرَّةً فَأَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ فَطَلَبُوا صَالِحًا لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ صَالِحٌ وَالْتَجَأَ إِلَى سَيِّدِ بَعْضِ بُطُونِ ثَمُودَ وَكَانَ مُشْرِكًا فَغَيَّبَهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ،
فَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَخافُ عُقْباها وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

صفحة رقم 180
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية