
تفسير سورة «البلد»
وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل مدنيّة
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢)قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الكلامُ في لا تقدم في لاَ أُقْسِمُ [القيامة: ١] والبَلَدُ هو: «مكة».
وقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حَلاَلٌ بهذا البلد، يحلُّ لك فيه قَتْلُ من شئتَ، وكان هذا يومُ فَتْحِ مكة، وعلى هذا يتركبُ قولُ مَنْ قال:
السورة مدنية نَزَلَتْ عَامَ الفتح «١»، وقال آخرون: المعنى وأنْتَ حال ساكن بهذا البلد.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٣ الى ١٠]
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
وقوله تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال مجاهد: هو آدم وجميع ولدهِ «٢»، وقال ابن عباس: ما معناه أنّ الوالدَ والولدَ هنا على العمُومِ فهي أسماء جِنْسٍ يَدْخل فيها جميعُ الحيوانِ «٣»، والقَسَمُ واقع على قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال الجمهور: الإنْسَانُ اسم جنسٍ والكَبَدُ المشقةُ والمكَابَدَةُ، أي: يُكَابِد أمرَ الدنيا والآخرة، ورُوِيَ: أَن سببَ نزولِ هذه الآية رَجُلٌ من قريشٍ يقال له أبو الأَشَدِّ، وقيل نزلتْ في عمرو بن عبد ود،
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٨٦)، (٣٧٢٤٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٩٣)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٨٦)، (٣٧٢٤٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٣). [.....]

وقال: مقاتل: نَزَلَتْ في الحارثِ بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَمَرَهُ بِالكَفَّارَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَهْلَكْتُ مَالاً في الكفارات وَالنفَقَاتِ، مُذْ تَبِعْتُ مُحَمَّداً، وَكَانَ كُلُّ واحد منهم قد ادعى أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالاً كَثِيراً على إفْسَادِ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَوْ في الكَفَّارَاتِ على مَا تَقَدَّمَ.
وقوله: أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً أي: أنفقْتُ مالاً كثيراً، ومن قال: أَن المرادَ اسمُ الجِنْسِ غيرُ معينٍ، جَعَلَ قولَه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بمعنى: أيظُنُّ الإنسانُ أن لَيس عليه حفظةٌ يرون أعمالَه ويُحْصونَها إلى يوم الجزاء، قال السهيلي: وهذه الآيةُ وإن نزلتْ في أبي الأشد فإن الألفَ واللامَ في الإنسان للجنسِ، فيشتركُ مَعَهُ في الخِطابِ كلّ من ظن ظنه وفعل مثلَ فِعْلِه/ وعلى هذا أكثرُ القُرْآنَ، يَنْزِل في السَّبَبِ الخاصِّ بلفظِ عامٍ يتناولُ المَعْنَى العام انتهى، وخرَّج مسلم عن أبي برزة قَال: قال رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به، وَعَنْ مَالِهِ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ» «١»، وخرَّجه أيضاً الترمذيُّ وقال فيه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ «٢»، انتهى، وقرأ الجمهور «٣» : لُبَداً أي: كثيراً متلبِّداً بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم عدَّدَ تعالى علَى الإنسانِ نَعَمَه في جوارِحه، والنَّجْدَيْنِ: قال ابن عباس والناسُ: هما طريقَا الخَيْرِ والشرِّ، أي: عَرَضْنَا عليه طريقَهما، وليستِ الهداية هنا بمعنى الإرْشَادِ «٤»، وقال الضحاكُ: النَّجْدَانِ ثَدْيَا الأمّ، وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع «٥».
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٣٤٩) : رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال الطبراني رجال «الصحيح» غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٦١٢)، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (٢٤١٦)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢/ ٢٧٦)، (١٧٨٤)، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه.
وفي الباب عن أبي برزة رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (٤/ ٦١٢)، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (٢٤١٧)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٠/ ٢٣٢)، وأبو يعلى (١٣/ ٤٢٨)، (٧٤٣٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٨٤)، و «البحر المحيط» (٨/ ٤٧٠)، و «الدر المصون» (٦/ ٥٢٥).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٩١)، (٣٧٢٩٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥١٢) بنحوه.
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٩١) (٣٧٣٠٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤٨٩)، وابن عطية (٥/ ٤٨٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٩٥)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس رضي الله عنه.