آيات من القرآن الكريم

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
ﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡ

ابتلاء الإنسان بالتعب واغتراره بقوته وماله
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
الإعراب:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ.. أن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي أنه.
البلاغة:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أي أقسم بهذا البلد، وزيادة لا لتأكيد الكلام وتأكيد القسم، تقول: لا واللَّه ما قلت كذا، أي واللَّه. وهذا مستفيض في لغة العرب.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ بينهما جناس اشتقاق، فكل من الوالد والولد مشتق من الولاد.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ استفهام إنكاري للتوبيخ، وكذا قوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ.
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
لا أُقْسِمُ أي أقسم. بِهذَا الْبَلَدِ مكة. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي وأنت يا محمد حلال وحالّ مقيم فيه، أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وحال كون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقيم فيه، إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وهذه الجملة وما بعدها اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله بعدئذ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي وأقسم بكل والد كآدم أو إبراهيم وغيرهما، وبكل مولود من أي شيء آخر، والمراد: أن اللَّه أقسم ببلد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه

صفحة رقم 243

إسماعيل، وبمن ولد فيه. والتنكير للتعظيم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران ٣/ ٣٦] أي بأي شيء وضعت، يعني موضوعا عظيم الشأن.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان. فِي كَبَدٍ أي خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، والتعب والنصب، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية وتثبيت للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مما كان يكابده من قريش، وبعث له على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته.
أَيَحْسَبُ أيظن الإنسان. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي أنه يغتر بقوته، ويعتقد ألا أحد ينتقم منه ولكن اللَّه قادر عليه، كأبي الأشد بن كلدة، فإنه كان يبسط تحت قدمه أديم عكاظي، ويجذبه عشرة، فينقطع، ولا تزلّ قدماه. يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي وأنه يقول: أنفقت مالا كثيرا. من تلبد الشيء: إذا اجتمع، على عداوة محمد، أو سمعة ومفاخرة.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيما أنفقه، فيعلم قدره، واللَّه عالم بقدره، وأنه ليس مما يتكثر به، ومجازيه على فعله السيء.
سبب النزول:
نزول الآية (٥) :
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ: روي أن هذه الآية: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحي، الذي كان مغترا بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا، وهو في ذلك كاذب.
نزول الآية (٦) :
يَقُولُ أَهْلَكْتُ..:
قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمره أن يكفّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد.
وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.

صفحة رقم 244

التفسير والبيان:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند اللَّه تعالى لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفيها مناسك الحج. وقوله: لا أُقْسِمُ قسم مؤكد وليس نفيا للقسم، كقول العرب: لا واللَّه لا فعلت كذا، ولا واللَّه ما كان كذا، ولا واللَّه لأفعلن كذا.
أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل من دخله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] تشريفا لك، وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل: الحلال.
ورد في الحديث المتفق على صحته: «إن هذا البلد حرّمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
والمراد أن مكة عظيمة القدر في كل حال، حتى في حال اعتقاد الكفار أنك حلال لا حرمة لك، فلا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك. وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم.
وأقسم بكل والد ومولود من الإنسان والحيوان، تنبيها على عظم آية التناسل والتوالد، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه.
ثم ذكر المقسم عليه، فقال:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي لقد خلقنا الإنسان مغمورا بالتعب والنصب، وفي مكابدة المشاقّ والشدائد، فهو لا يزال في تلك المكابدة بدءا من

صفحة رقم 245

الولادة، إلى المتاعب المعيشية والأمراض الطارئة، ثم إلى الموت وما يتبعه في قبره والبرزخ وآخرته من شدائد ومتاعب وأهوال.
وفيه تثبيت لرسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، وحمله على احتمال مكائد أهل مكة، وصبره على المشاق والمتاعب، فذلك لا يخلو منه إنسان، وفيه لوم لهم على عداوته.
ثم وبخ الإنسان على الاغترار بقوته، فقال:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه، ولا ينتقم منه أحد، فإن اللَّه هو القادر على كل شيء.
ثم لام الإنسان على الإنفاق مراءاة، فقال:
يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي أنفقت مالا كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. والمراد أن الإنسان يقول في يوم القيامة: أنفقت مالا كثيرا فيما كان يسميه أهل الجاهلية مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر.
ثم عابه على جهله، فقال:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أي أيظن الإنسان والمدعي النفقة في سبيل الخير أن اللَّه سبحانه لم يطلع عليه، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم اللَّه تعالى بالبلد الحرام- مكة أم القرى، وبالوالد والمولود كآدم وذريته، وكل أب وولده، وما يتوالده الحيوان، على أنه خلق الإنسان مغمورا في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.

صفحة رقم 246
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية