
في قوله تعالى «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم يأتوا ولم يعتذروا إذ عرفوا أنهم سقط في أيديهم «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» أعنف العنف «عَذابٌ أَلِيمٌ» (٩٠) لأن تخلفهم كان مخالفة لأمر الرّسول وجرأة على الله، أما الّذين لم يكن تخلفهم لهذا فمفوضون لأمر الله،
ثم بين تعالى المعذورين الغير مكلفين بالجهاد فقال «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ» المسنين الهرمين ومن دون البلوغ من الصّبيان والنّساء لعدم تكليفهم ولضعفهم ورقة قلوبهم «وَلا عَلَى الْمَرْضى» وذوي العاهات والزمنى «وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ» بالغزو من السّلاح والزاد والرّاحلة «حَرَجٌ» إثم إذا تخلفوا عن الجهاد، أما إذا خرجوا طوع أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وحفظ متاعهم وتهيئه ما يتمكنون عليه من الخبز والتضميد والتنظيف ومداواة الجرحى، فلهم الثواب العظيم، لأن الله تعالى أسقط عنهم الوجوب ولم يحرم عليهم الخروج، فإذا أقاموا في البلد لا إثم عليهم، بل يؤجرون إذا نظروا إلى أولاد وأموال المجاهدين ورعايتها وحفظها، وهذا مغزى قوله جل قوله «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» بأن حافظوا على ما ذكر وقاموا بحوائج ذراري وأهالي المجاهدين ما استطاعوا عليه بصدق وأمانة وإخلاص، ولا سيما إذا أوصلوا الأخبار السّارة إلى أهالي المجاهدين وردوا أراجيف المرجفين وكتموا أسرارهم ولم يفشوها لأحد، فهذا كله من الإحسان للمجاهدين وأهليهم وداخل في معنى النّصح الذي ذكره الله، لذلك قال «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» يلامون عليه أو يعاتبون فيه وقد سماهم الله محسنين فيكفيهم فضلا على غيرهم وأجرا على ما وصفهم الله به وتقديرا عند رسوله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تخلف منهم «رَحِيمٌ ٩١» بهم يثيبهم بحسب نيتهم «وَلا» حرج ايضا «عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» فبلغوا معك تبوك لقتال عدوك «قُلْتَ» لهم «لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» وكانت الشّقة بعيدة في هذه الغزوة لا يمكن المشي فيها على الأقدام بصورة مستمرة «تَوَلَّوْا» أعرضوا بظهورهم عنك وهو جواب إذا «وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ»، واعلم أن هذا التعبير يقع في علم البلاغة بمكان عظيم، لأن العين جعلت هنا كلها دمعا ويعبر عن مثل هذا في البلاغة

بفيض دمعها «حَزَناً» على عدم خروجهم معك بسبب «أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» (٩٢) للتأهب معك والواو هنا للحال أي تولوا والحال أن أعينهم إلخ. ثم ان العباس وعثمان ويامين بن عمرو لما رأوا تأثرهم تمكنوا من تجهيز جملة منهم وذهبوا مع حضرة الرّسول. أخرج ابن أبي حاتم والدّارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت براءة، واني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى. فقال كيف يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) الآية. ونقل الطّبراني عن محمد بن كعب وغيره، قالوا جاء أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستحملونه فقال ما قصه الله في الآية. وهذا شامل لقول من قال إنها نزلت في البكائين السبعة: سالم بن عمير وهو من بني عمير وعبد الرّحمن بن كعب أبي يعلى وسلمان ابن صخر وعبد الرّحمن بن زيد الذي تصدق بعرضة- بفتح العين والضّاد- وعمرو ابن خيثمة وعبد الله بن عمرو وغيرهم الّذين ذكرهم البغوي، والثلاثة الّذين ذكرهم مجاهد، أو العرياض بن سارية. قال تعالى «إِنَّمَا السَّبِيلُ» طريق اللّوم والعقوبة والمؤاخذة «عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ» أقوياء قادرين الّذين «رَضُوا» رغبة منهم «بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (٩٣) حقيقة ما أعده الله للمجاهدين في الدّنيا والآخرة، وقبح ما اختاروه، ووخامة عاقبته في الدّارين. قالوا ولما وصل صلّى الله عليه وسلم تبوكا لم يرقها أحد من الرّوم، فاستنار أصحابه بمجاوزة تبوك، فقال عمر إن كنت أمرت فسر، فقال لو أمرت لم أستشر. وهناك جاءه يوحنا صاحب إيلياء ومعه أهل جرباء واذرح ومتينياء من بلاد الشّام، فصالحوه على الجزية، وكتب لهم كتاب أمان لهم ولأموالهم ما داموا على العهد. وبعد مضي عشرين يوما أقاموها بتبوك للراحة من وعثاء السفر رجعوا إلى المدينة. وان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى مساجد في طريقه من تبوك إلى المدينة ووصلوا إليها سالمين، وامتدحه العباس رضي الله عنه بقصيدة مشهورة مطلعها:
وأنت لما ولدت أشرقت ال | أرض وضاءت بنورك الأفق |
فنحن في ذاك الضّياء وفي | النور وسبل الرّشاد نخترق |

بسيب بعدهم عن سماع القرآن وأحاديث الرّسول ومواعظ العلماء، لذلك قال تعالى وأخلق «أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» من الأحكام والأخلاق والآداب والأمثال والقصص الموجبة للاتعاظ والاعتبار «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بأحوال عباده كلهم «حَكِيمٌ» (٩٧) بهم ميسر كلا لما خلق له ومعط كلا ما يستحقه.
واعلم أن الأعراب هم الّذين يتبعون في البوادي مساقط الغيث ومنابت الكلأ، يخيّمون هنا يوما، وهنا أياما بحسب وجود الماء والمرعى، ويقال للواحد منهم أعرابي مفرد أعراب ومن استوطن القرى والمدن يقال له عربي مفرد عرب، وعليه فإن المهاجرين والأنصار من العرب لا من الأعراب، وإنما وصفهم الله بالكفر والنّفاق لكثرة تصلّبهم بهما وبعدهم عن معرفة حقيقة الإسلام مع ما هم عليه من كرم وشجاعة، وإقراء الضّيف وإغاثة الملهوف ومعونة ذي الحاجة والمروءة والغيرة، وأوصاف أخر قد لا يتحلى بها كثير من النّاس لا كما يقوله البعض بأنهم أجلاف كلا بل أشراف، ولكن مع الأسف لا حظ لهم في الآخرة إذا لم يؤمنوا.
قال تعالى «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات الواجبة عليه بمقتضى الدّين الحق «مَغْرَماً» يعدها كغرامة وهي التزام ما لم يلزم، فلا يعتقد وجوبها وهي أحد أركان الإسلام، ولا ثوابها ولا يعطبها إلّا خوفا أو رياء «وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ» أيها المؤمنون «الدَّوائِرَ» تقاليب الزمن بما يحوك في صدورهم من الحقد عليكم بسبب أخذ الصّدقة منهم، وينقلبوا عليكم فينتقموا منكم عند أول سانحة، ولذلك فإنهم يتحينون الفرص السّيئة لينقضوا عليكم ولكن «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» تدور وينقلب الزمن بسوء عليهم لا عليكم، فلا يرون فيكم إلّا ما يسوءهم، ولا ترون فيهم إلّا ما يسركم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يقولونه فيكم أسرّوا فيه أم جهروا «عَلِيمٌ» (٩٨) بما ينوون من السّوء عليكم ويتمنون وقوعه فيكم، نزلت هذه الآيات في أعراب أسد وغطفان وتميم، ثم استثنى منهم جماعة بقوله جل قوله «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» لأنهم يعطونها عن طيب نفس «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» أدعيته صلّى الله عليه وسلم لهم يتخذونها أيضا

ويرغبون بها، لأن حضرة الرّسول كان يدعو للمتصدقين بالبركة والخير. ثم ينبّه على ما يتعظ له هؤلاء الأبرار فقال «أَلا إِنَّها» صلوات الرّسول في الحقيقة «قُرْبَةٌ» عظيمة ومنفعة جزيلة وبرّ شامل «لَهُمْ» للمتصدقين ولهم في الصّدقات وصلوات الرّسول قربة عند الله وأجر عظيم وثواب كبير وخير جزيل «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» الواسعة على نيتهم هذه وعقيدتهم الحسنة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما يقع من الخلل في صدقاتهم وما سبق من أعمالهم «رَحِيمٌ» (٩٩) بهم وبأمثالهم المؤمنين المتصدقين لأجله، الطالبين دعاء الرّسول، وهذه شهادة من الله تعالى للمتصدقين المتيقنين أجر صدقاتهم مؤكدة بحرفي التنبيه والتأكيد وناهيك بها شهادة، فعلى المتمولين أن يسارعوا في صدقات أموالهم عن رغبة ويكثروا منها ما استطاعوا طلبا لهذا الثواب المشهود به من الله. وتفيد هذه الآية أن من لم يؤد صدقته بهذه النّية ويطلب فيها مرضاة الله فإنهم يعرضون أنفسهم لسخط الله ويعدّون من الكانزين المشار إليهم في الآية ٣٥ المارة، لأن الذي يعطيها خوفا أو رياء لا يعد مؤديها كما أراد الله، اللهم وفق عبادك إلى السّخاء بما مننت به عليهم من فضلك، واجعله لخيرهم وقهم من البخل والشّح المؤدي لهلاكهم، وامح شقاءهم، واثبت لهم السّعادة إنك على كلّ شيء قدير. قال قسّ بن ساعدة: أفضل المال ما قضى به الحقوق، وأفضل العلم وقوف المرء عند علمه، وأفض العقل معرفة المرء بنفسه، وأفضل المروءة استبقاء ماء الوجه، ولهذا حث الشّارع على السّعي كما جاء به الكتاب، وحبذه كلّ ذي رأي وعقل، وفيه قيل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى | تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا |
وما بلغ الحاجات في كلّ وجهة | من النّاس إلّا من أجدّ وشمرا |
فلا ترض من عيش بدون ولا تنم | وكيف ينام اللّيل من كان معسرا |
جمعت مالا ففكر هل جمعت له | يا جامع المال أبوابا تفرقه |
المال عندك مخزون لوارثه | ما المال مالك إلّا يوم تنفقه |
إن القناعة من يحلل بساحتها | لم يلق في ظلها عمّا يؤرقّه |
ولم أر بعد الدّين خيرا من الغنى | ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر |
ورويا عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار مواليّ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله. وإنما مدح هؤلاء حضرة الرّسول لكمال يقينهم وحسن نيتهم وصدق عقيدتهم وأدائهم زكاة أموالهم طيبة بها أنفسهم. قال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فسلكوا سبيلهم بالإيمان واقتفوا آثارهم بالأعمال الصّالحة إلى يوم قيامتهم على هذا الشّرط الذي شرطه الله عليهم، فهؤلاء «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» بحسن نيّاتهم وبما أنعم الله عليهم من خيره الفيّاض «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ» الفضل الذي منحهم الله إياه هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١٠٠) من الرّب العظيم والفلاح الجسيم والنّجاح الذي ما بعده نجاح، وهؤلاء هم الّذين صلّوا إلى القبلتين وأهل بدر وأهل بيعة الرّضوان، ويدخل في عموم الآية جميع الأصحاب نسبيّا، وتشمل من حذا حذوهم أيضا، أما من لم يتبعهم بإحسان ولم يقتف آثارهم فليس منهم، ولا ينال ما نالوه، ولا يدخل في عدادهم، والنّاس بعدهم مراتب. واعلم أن أول من آمن به صلّى الله عليه وسلم من النّساء خديجة الكبرى رضي الله عنها، ومن الصّبيان علي كرم الله وجهه ورضي عنه، ومن الرّجال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ومن الأرقاء بلال وزيد بن حارثة رضي الله صفحة رقم 477

عنهما، والّذين أسلموا بواسطة أبي بكر أولهم عثمان بن عفان فالزبير بن العوام فعبد الرّحمن بن عوف فسعد بن أبي وقاص فطلحة بن عبد الله، فهؤلاء العشرة هم أسبق النّاس إيمانا من المهاجرين، والسابقون من الأنصار سعد بن زرارة وعوف ابن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطينة بن عامر وجابر بن عبد الله بن ذياب، وهؤلاء الّذين بايعوا حضرة الرّسول ليلة العقبة الأولى، والبراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو بن حزام أبي جابر، وسعد بن عبادة، وسعد بن الرّبيع، وعبد الله ابن رواحة، ورفقاءهم، وهم سبعون رجلا الّذين بايعوا حضرة الرّسول عند العقبة الثانية، راجع الآية ١٠٣ من سورة آل عمران تجد هذا هناك، وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم أيضا. وأول من آمن على يد مصعب بن عمير من أهل المدينة قبل الهجرة قد ذكرناهم هناك أيضا. وإنما خص الله السّابقين الأولين في هذه الآية بهذه المزية العظيمة لأن الهجرة أمر شاق على النّفس لما فيها من مفارقة الوطن والأهل، والنّصرة منقبة شريفة ورتبة عالية، وقد امتاز الأنصار المذكورون على غيرهم بإبواء حضرة الرّسول وأصحابه ومواساتهم لهم بالمال والسّكن، حتى ان بعضهم ترك بعض زوجاته لبعضهم، وهؤلاء الأكارم حازوا خير الدّنيا والآخرة. ويعلم من تقديم المهاجرين في كلام الله أنهم أفضل من الأنصار، لأن الهجرة أشق على النّفس من أشياء كثيرة، والأنصار هم أهل المدينة، ولقبوا بهذه الصّفة قبل غيرهم، وصار علم شرف لهم لنصرتهم حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: خير النّاس قرني ثم يلونهم، ثم الّذين يلونهم. قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة.
والأخيريّة النّسبية موجودة حتى الآن وما بعدئذ بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلم لا يأتي يوم إلا والذي بعده شرّ منه، وما يقع من الأخيريّة فهو من تنفسات الزمان. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. والقرن من مئة إلى مئة وعشرين سنة، وهو مستوى عمر الإنسان لو عاش سالما من تخم الأكل المهلكة وتحفظ من الحر والقر المدمّرين للانسان، ومن الجوع المفرط وما يعتريه بسبب