
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣)
رجعك الله إلى المدينة سالما غانما، فالرجوع إلى الجميع مؤمنين ومنافقين، فلما خص سبحانه وتعالى الرجوع إلى طائفة منهم، والضمير في منهم يعود إلى

المنافقين؛ لأنهم موضع حديث الله تعالى في كتابه سبحانه إذ الكلام في أحوالهم النفسية وتخذيلهم للمؤمنين وخدعهم لهم، ونقول خص سبحانه الرجوع إلى طائفة من المنافقين؛ لأن هذه الطائفة هي التي اعتادت التثبيط، وبث روح التردد والهزيمة، وهي تعاود الاستئذان كلما اشتدت الشديدة وجد الجد، لَا ليقعدوا فقط، بل ليكونوا أسوة لغيرهم، فيقتدى بهم من ضعفاء الإيمان والجبناء من يصيبهم هلع عند الحرب، وفزع عند اللقاء.
هذا هو الذي بدا لنا. من التعبير في قوله: (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّه إِلَى طَائِفَة مِّنْهُمْ) إذ هي التي اعتادت التخذيل والتثبيط، وبث روح التردد والهزيمة، وقوله تعالى: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الفاء هنا للترتيب والتعقيب، أي أنه بمجرد أن ترجع إليهم يفاجئونك بالاستئذان كعادتهم، وقد يكررون في هذه الحال معاذيرهم الكاذبة، وهذا يدل على أن هذه الطائفة منهم هي ذات المعاذير المتكررة المثبطة.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يسجل عدم الثقة معهم، وأنه لَا يعدهم في جماعته المؤمنة المجاهدة فقال تعالى: (فَقل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدَا وَلَن تُقَاتلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
وأمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) بالنفي المؤكد بـ (لنْ)، لأن لن لتأكيد النفي، ولقد قال الزمخشري في تفسير قوله: (لَنْ تَخْرُجُوا) إن لن لتأكيد النفي، وسواء أكان القول ما قال الزمخشري أم لم يكن، فإن النفي هنا للتأكيد بقوله تعالى أبدا.
وكان قرار منع الخروج الأبدي؛ لأنهم خرجوا في أحد، فهمت طائفتان أن تفشلا بتخذيل المنافقين ثم تركوا هم الغزوة، ليسلك غيرهم مسلكهم، وأفسدوا ما بين المؤمنين في غزوة بني المصطلق، وقال قائلهم: (... لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ...)، وهكذا فهم إذا خرجوا مع المؤمنين كان منهم السعي بالشر بينهم، وقال تعالى: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وإن هذا

النفي المؤكد هو تقرير للواقع، فهم لَا يقاتلون أعداء النبي - ﷺ - بل هم يوالونهم، ولا يعدونهم أعداء.
وإن الله تعالى العليم الخبير أعلم نبيه - ﷺ - بأمرهم، ولكن أمر نبيه بأن يأخذ من ماضيهم دليلا على حاضرهم فكان أمر بقوله لهم: (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أكد سبحانه وتعالى رضاهم بالقعود أول مرة بـ (أن)، وخاطبهم بهذا القول، وقالوا: إنما أول مرة، هي عندما دعاهم للقتال وتثاقلوا، ونقول: ليست هذه أول مرة، بل كانت أول مرة هو رجوعهم في غزوة أحد، وتثبيطهم للمؤمنين حتى همت طائفتان أن تفشلا، كما تلونا.
وإنهم إن خرجوا لَا يخرجون للجهاد والقتال، بل يخرجون للغنيمة كما قال تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥).
ويقول الله تعالى آمرًا نبيه بذلك القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (الفاء) للسببية، والأمر هنا للتهكم عليهم والنذير بهم، و (المخالف) اسم فاعل من خلف، أي كان وراء المجاهدين متخلفا عنهم مع القاعدين من النساء والضعفاء الذين لا قدرة لهم على قتال، وقيل إن معنى المخالفين الفاسدين في ذات أنفسهم وضمائرهم، ولقد قال ذلك القرطبي في كتابه أحكام القرآن، فقد قال: (قيل المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسدًا فيهم من خلوف فم الصائم، ومن قولك خلف اللين إذا فسد) وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الحرب لَا يجوز، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *

اجتناب المنافقين
قال تعالى:
(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
* * *
إن الآية الكريمة