المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم، باعتبار خطرهم الداهم عن الإِسلام والمسلمين.
صفحة رقم 512
اللغَةَ: ﴿أَعْقَبَهُمْ﴾ قال الليث: يقال أعقبت فلاناً ندامة إِذا صارت عاقبة أمره ذلك، ويقال: أكل أكلة أعقبته سقماً أي حصل له بها السقم قال الهذلي:
أودى بني وأعقبوني حسرة... بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
﴿سِرَّهُمْ﴾ السر: ما ينطوي عليه الصدر ﴿نَجْوَاهُمْ﴾ النجوى: ما يكون بين شخصين أو أكثر من الحديث مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي، كأن المتناجين منعاً إِدخال غيرهما معهما ﴿يَلْمِزُونَ﴾ يعيبون واللمز: العيب ﴿المخلفون﴾ المخلف، المتروك الذي تخلف عن الجهاد ﴿الطول﴾ الغنى ﴿المعذرون﴾ جمع معذر كمقصِّر وهو الذي يعتذر بغير عذر قال الجوهري: هو الذي يعتذر بالكذب وأصله من العذر وفي الأمثال «أُعذر من أنذر» أي بالغ في العذر من تقدم إِليك فأنذرك.
سَبَبُ النّزول: أ - «روي أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزال يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه فأخبروه يخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ..﴾ الآية» فهلك في خلافة عثمان.
ب - عن ابن عمر قال: «لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت» فقيل لي ﴿استغفر لَهُمْ﴾ الآية ولو أعلم أني زدت على السبعين غفر له زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه ﴿لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ﴾ أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين﴾ أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله ﴿بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ أي جعل الله
عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله ﴿بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ﴾ أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح ﴿وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ ﴿وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟ ﴿الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزءون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءٌ، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة ﴿فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾ أي فرح المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخالفة له حين سار وأقاموا ﴿وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾ أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإِنما قال ﴿وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ على قوله «وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو» إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعلى رداً عليهم ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً﴾ أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر
صفحة رقم 514جهنم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل ﴿لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف وهذا ولكنهم «كالمستجير من الرمضاء بالنار» ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي جزاءً لهم ما اجترحوا من فنون المعاصي ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر ﴿فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ﴾ أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً﴾ أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً ﴿وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك ﴿فاقعدوا مَعَ الخالفين﴾ أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة ﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾ أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيادة والدعاء ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان، نزلت في ابن سلول ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ﴾ أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا﴾ أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن ﴿أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ﴾ أي بأن آمنوا بالله بصدقٍ ويقين، وجاهدوا مع رسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين ﴿استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ﴾ أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير ﴿وَقَالُواْذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين﴾ أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت ﴿وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ﴾ أي ختم عليها ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة ﴿لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم
صفحة رقم 515
يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً ﴿وأولئك لَهُمُ الخيرات﴾ أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي الفائزون بالمطلوب ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي لايثين في الجنة أبداً ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا فوز راءه ﴿وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب﴾ أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار تخلفوا عن الجهاد ﴿لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم «أسد» و «غطفان» استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال ﴿وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم ﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى﴾ أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم ﴿وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد ﴿حَرَجٌ﴾ أي إِثم في القعود ﴿إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾ أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل قال في التسهيل: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحملهم عليه قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ﴿قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً﴾ أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن ﴿أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند رسول الله ما يحملهم عليه ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ﴾ أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنونك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَعْلَمُ... عَلاَّمُ الغيوب﴾ بين يعلم وعلام جناس الاشتقاق.
٢ - ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ التنوين في عذابٌ للتهويل والتفخيم.
٣ - ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ بينهما طباق السلب، وقد خرج الأمر عن حقيقته إِلى التسوية.
٤ - ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
٥ - ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي بعد رجيل الرجال ففيه استعارة، وإِنما سمي النساء خوالف تشبيهاً لهن بالخوالف وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحي فشبههن لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت.
٦ - ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ هو من عطف الخاص على العام اعتناءً بشأنهم أفاده الألوسي.
فَائِدَة: قال الزمخشري عند قوله تعالى ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ لفظ السبعين جارٍ مجرى المثل في كلام العرب للتكثير قال علي بن أبي طالب.
لأصبحن العاص وابن العاصي | سبعين ألفاً عاقدي النواصي |
تنبيه: إِنما منع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة على المنافقين، لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
لطيفَة: «اشتهر» حذيفة بن اليمان «بأنه صاحب سر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِني مسرٌ إِليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، نْرهط ذوي عدد من المنافقين، ولذلك كان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يأتيه فيقول: أسألك باللهِ هل عدَّني رسول الله من المنافقين». صفحة رقم 517