آيات من القرآن الكريم

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ

هذا في أساسيات العقيدة، أما حكم الهزل في العقود كالبيع والزواج، والفسوخ كالطلاق، فمختلف فيه بين العلماء على ثلاثة أقوال:
لا يلزم مطلقا، يلزم مطلقا، التفرقة بين البيع وغيره، فيلزم في الزواج والطلاق، ولا يلزم في البيع. والقول الثالث هو المشهور في المذاهب، لما
روى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح، والطلاق، والرجعة»
وفي موطأ مالك عن سعيد بن المسيّب قال: ثلاث ليس فيهن لعب: النكاح، والطلاق، والعتق. وذكر ابن المسيب عن عمر قال: أربع جائزات على كل أحد: العتق، والطلاق، والنكاح، والنذور.
٥- تضمنت آية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدّعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل.
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت، ومن حلف له فليصدّق».
أوصاف المنافقين وجزاؤهم الأخروي
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)

صفحة رقم 292

الإعراب:
خالِدِينَ فِيها حال، والعامل فيه محذوف أي يصلونها خالدين هِيَ حَسْبُهُمْ مبتدأ وخبر.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الكاف في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، وتقديره: وعدا كما وعد الذين من قبلكم، بدليل قوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ.
كَمَا اسْتَمْتَعَ... الكاف في موضع نصب أيضا صفة لمصدر محذوف، وتقديره: استمتاعا كاستمتاع الذين من قبلكم. وكذلك كاف كَالَّذِي خاضُوا في موضع نصب أيضا صفة محذوف دل عليه الفعل، وتقديره: وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا.
البلاغة:
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قبض اليد: كناية عن الشح والبخل، كما أن بسط اليد كناية عن الجود.
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ من باب المشاكلة، لأن الله لا ينسى، أي تركوا طاعته، فتركهم تعالى من رحمته.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وخُضْتُمْ: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التقريع والذم.
فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ... فيه إطناب، قصد منه الذم والتوبيخ، لاشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة.

صفحة رقم 293

المفردات اللغوية:
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في صفة النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد كما يقال: أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه. وقال الزمخشري: المراد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في حلفهم بالله: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وتقرير لقوله: وَما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة ٩/ ٥٦] وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين، وهو قوله:
يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والمعاصي. والمنكر: إما شرعي: وهو ما يستقبحه الشرع ويمنعه، وإما عقلي: وهو ما تستنكره العقول السليمة والفطر النقية، لمنافاته الأخلاق والمصالح العامة. وضده المعروف. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي الإيمان والطاعة، والمعروف: كل ما أمر به الشرع، أو استحسنه العقل والعرف الصحيح غير المصادم للشرائع والأخلاق.
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في الطاعة، ويراد به الكف عن البذل فيما يرضي الله، وضده: بسط اليد نَسُوا اللَّهَ تركوا طاعته وأوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ فَنَسِيَهُمْ فتركهم من فضله ولطفه ورحمته، وجازاهم على نسيانهم وإغفالهم ذكر الله الْفاسِقُونَ الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن أصول الإيمان، الكاملون في التمرد والتنكر للخير.
وَعَدَ اللَّهُ الوعد: يستعمل في منح الخير والشر، والوعيد خاص بالشر خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود هِيَ حَسْبُهُمْ كفايتهم عقابا وجزاء، وفيه دلالة على عظم عذابها وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرّمين. واللعن: الطرد أو الإبعاد من الرحمة والإهانة والإذلال وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا ينقطع، والمراد أن لهم نوعا من العذاب غير الصلي بالنار، أو لهم عذاب ملازم لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم من الكفار، أو فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم، وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا فَاسْتَمْتَعُوا تمتعوا بِخَلاقِهِمْ نصيبهم من ملاذ الدنيا فَاسْتَمْتَعْتُمْ أيها المنافقون وَخُضْتُمْ دخلتم في الباطل والطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم كَالَّذِي خاضُوا أي كخوضهم. وفائدة ذكر فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وقوله:
كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ: أن يذم الأولين بالاستمتاع بحظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل الفلاح في الآخرة، تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم.
حَبِطَتْ بطلت وفسدت أعمالهم وذهبت فائدتها في الدنيا والآخرة، ولم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.

صفحة رقم 294

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَعادٍ قوم هود أهلكوا بالريح وَثَمُودَ قوم صالح أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه وَأَصْحابِ مَدْيَنَ هم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى قوم لوط، أي أهلها، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجّيل أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أتتهم يعني الكل بالمعجزات، فكذبوهم فأهلكوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي لم يكن من عادته أن يعذبهم من غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب الذنب وتعريضها للعقاب بالكفر والتكذيب.
المناسبة:
تستمر الآيات في بيان فضائح المنافقين وقبائحهم، وهذا نوع آخر قصد به بيان الفرق بينهم وبين المؤمنين، وتشبيههم بمن قبلهم من المنافقين والكفار، وتمثيل حالهم بحال من سبقهم، وعقد قياس أو موازنة بينهم وبين أناس غابرين، لهم شبه بهم، كما قصد به بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة.
التفسير والبيان:
تبيّن هذه الآيات وما بعدها الفروق الواضحة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كان المنافقون عكسهم.
المنافقون والمنافقات أي الرّجال والنّساء يشبه بعضهم بعضا في صفة النفاق والبعد عن الإيمان وفي الأخلاق والأعمال، فهم يأمرون بالمنكر: وهو ما أنكره الشّرع ونهى عنه، ولم يقرّه الطّبع السليم والعقل الصحيح، كالكذب والخيانة وخلف الوعد ونقض العهد، كما جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه الشّيخان والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ:

صفحة رقم 295

وهو ما أمر به الشرع وأقرّه العقل والطّبع كالجهاد وبذل المال في سبيل الله، كما قال تعالى عنهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون ٦٣/ ٧].
ونسوا ذكر الله، وأغفلوا تكاليف الشرع مما أمر به الله ونهى عنه، فنسيهم أي جازاهم بمثل فعلهم، وعاملهم معاملة من نسيهم، بحرمانهم من لطفه ورحمته، وفضله وتوفيقه في الدّنيا، ومن الثواب في الآخرة، كقوله تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية ٤٥/ ٣٤]، وذلك لتركهم التّمسك بطاعة الله.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ، أي الخارجون عن طريق الحقّ والاستقامة، الدّاخلون في طريق الضّلالة، المتمرّدون في الكفر، المنسلخون عن كلّ خير.
ثم بيّن الله تعالى جزاءهم فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ.
أي أنه تعالى أكّد وعيده السابق بمجازاتهم وضمّهم إلى الكفار، فأوعدهم جميعا نار جهنم يدخلونها، ماكثين فيها أبدا، مخلدين هم والكفار فيها، هي كفايتهم في العذاب ووفاء الجزاء أعمالهم، ولعنهم أي طردهم وأبعدهم من رحمته، ولهم عذاب دائم مستمر غير عذاب جهنم والخلود فيها، أو لهم عذاب ملازم في الدّنيا وهو ما يقاسونه من مرض النفاق، والخوف من اطّلاع الرّسول والمسلمين على بواطنهم، وحذرهم من أنواع الفضائح.
وفي ذكر النساء مع الرّجال دليل على عموم الوصف وتأصّل الدّاء، وأما تأخير ذكر الكفار عن المنافقين فهو دليل على أنهم شرّ من الكفار، وأن النّفاق أخطر من الكفر الصريح.
ثم بيّن الله تعالى أن ما أصاب هؤلاء المنافقين من العذاب في الدّنيا والآخرة،

صفحة رقم 296

له شبه بعذاب أولئك المنافقين والكفار السابقين مع أنبيائهم، فأنتم مثلهم مغرورون بالدّنيا ومتاعها الفاني، لكنهم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، فتمتعتم وخضتم كما تمتعوا وخاضوا، وانصرفتم مثلهم إلى الاستمتاع بنصيبكم من المال والولد، وبلذائذ الدّنيا وحظوظها الزائلة، وشغلتم عن التّمتع بكلام الله وهدي رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم تنظروا في عواقب الأمور، ولم تعملوا على طلب الفلاح في الآخرة، وتوافرت دواعي الخير عندكم، كما توافرت دواعي الشّرّ عندهم، فكنتم أسوأ حالا منهم، وأحقّ بالعقاب منهم. فقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي بنصيبهم من ملاذ الدّنيا، أو بنصيبهم من الدّين، كما فعل الذين من قبلهم.
وخضتم كالذي خاضوا، أي دخلتم في الباطل كما دخلوا، أو خضتم خوضا كالذي خاضوا.
وفائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق (النصيب) في حقّ المتقدمين أولا، ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا، ثم العود إلى ذكره مرة أخرى في حق المتقدمين ثالثا: هو ذمّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة، بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة، ثم شبّه منافقي العهد الإسلامي بأولئك، نهاية في المبالغة، وزيادة في قبح وجه الشّبه، كمن أراد أن ينبّه بعض الظّلمة على قبح ظلمه، فيقول له: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذّب من غير موجب، وأنت تفعل مثل فعله. وبالجملة فالتّكرار هاهنا للتّأكيد.
وبعد أن بيّن الله تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك الكفار المتقدّمين في طلب الدّنيا، وفي الإعراض عن طلب الآخرة، بيّن شبها آخر بين الفريقين: وهو تكذيب الأنبياء، والاتّصاف بالمكر والخديعة والغدر بهم، فقال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي كخوضهم الذي خاضوا، وقد خاضوا في الكذب والباطل.

صفحة رقم 297

ثم بيّن الله تعالى مصير أعمال جميع المنافقين والكفار المتقدّمين واللاحقين، فقال: أُولئِكَ حَبِطَتْ... أي إن أولئك المنافقين والكفار بطلت مساعيهم وحسناتهم وفسدت أعمالهم في الدّنيا، لأنها أعمال رياء وسمعة، وفي الآخرة، فلم يكن لهم أجر أو ثواب، لأنهم لم يقصدوا وجه الله، ولأن شرط الثواب عليها الإيمان، وهم لم يؤمنوا حقّا، بل أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فكانوا منافقين.
وأولئك هم الخاسرون الذين خسروا في مظنة الرّبح والمنفعة، لأنهم لم يحصلوا على الثّواب، وأتعبوا أنفسهم في الرّدّ على الأنبياء والرّسل، فما وجدوا إلّا فوات الخيرات في الدّنيا والآخرة، وإلّا حصول العقاب في الدّنيا والآخرة.
وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف ١٨/ ١٠٣- ١٠٤]، وقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ... نقيض فعل الصّالحين المشار إليه في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٧].
والمقصود: أنه تعالى بعد أن شبّه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار، بيّن أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال، وإلّا الخزي والخسار، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم، مما جعل هؤلاء المنافقين أولى بالوقوع في عذاب الدّنيا والآخرة، والحرمان من خيرات الدّنيا والآخرة «١».
ثم وعظ الله تعالى هؤلاء المنافقين المكذّبين للرّسل وأنذرهم بقوله: أَلَمْ يَأْتِهِمْ... أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذّبة للرّسل، وذكر طوائف ستّة، وهم قوم نوح الذين أغرقوا بالطّوفان الذي عمّ جميع أهل الأرض القديمة إلا من آمن بنوح عليه السّلام، وعاد قوم هود الذين أهلكوا بالرّيح العقيم

(١) تفسير الرّازي: ١٦/ ١٢٩

صفحة رقم 298

لما كذّبوا هودا عليه السّلام، وثمود قوم صالح الذين أخذتهم الصّيحة لما كذّبوا صالحا عليه السّلام وعقروا النّاقة، وقوم إبراهيم الذين أهلكهم الله بسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني، ونصر الله إبراهيم عليه السّلام عليهم، وأيّده بالمعجزات الظاهرة وأنقذه من النار، وأصحاب مدين قوم شعيب عليه السّلام الذين أصابتهم الرّجفة وعذاب يوم الظّلّة، والمؤتفكات «١» قوم لوط الذين كانوا يسكنون في مدائن، فأهلكهم الله بالخسف، وجعل عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم الحجارة، قال تعالى في آية أخرى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم ٥٣/ ٥٣] أي الأمة المؤتفكة، وأمّ قراهم:
سدوم، أهلكهم الله عن آخرهم، بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه السّلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
ذكر الله تعالى هؤلاء الطوائف السّتّة، لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا أخبارهم في التاريخ المنقول من الناس، وتارة لأجل أن بلاد هؤلاء، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة.
وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ استفهام للتقرير والتوبيخ، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام، فلم يعتبروا.
هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات، أي بالمعجزات والحجج والدلائل القاطعات، وهنا لا بدّ من إضمار محذوف في الكلام، تقديره: فكذّبوا، فعجّل الله هلاكهم.
فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإهلاكه إياهم، لأنه أقام عليهم الحجّة بإرسال الرّسل، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بسبب أفعالهم القبيحة، وتكذيبهم

(١) قال الواحدي: المؤتفكات: جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، فالمؤتفكات صفة القرى.

صفحة رقم 299

الرّسل، ومخالفتهم الحقّ، فالظّلم كان من أنفسهم لا من الله تعالى، فاستحقّوا ذلك العذاب.
والهدف من التذكير بهؤلاء الأقوام أن يعرف المنافقون والكفار أنّ سنّة الله في عباده واحدة لا تتغير ولا تتبدل، فإذا ما أصرّوا على كفرهم، فإن العذاب سينزل بهم، لأن ما جرى على النّظير يجري على نظيره، قال تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر ٥٤/ ٤٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- النّفاق: مرض عضال متأصّل في البشر، وأصحاب ذلك المرض متشابهون في كل عصر وزمان في الأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف، وقبض أيديهم وإمساكهم عن الإنفاق في سبيل الله للجهاد، وفيما يجب عليهم من حق.
٢- للمنافقين عذابان: عذاب في نار جهنم، ونوع آخر من العذاب المقيم الدائم، غير العذاب بالنار والخلود فيها.
٣- الجزاء من جنس العمل، فقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ معناه أنهم تركوا أمره وطاعته حتى صار ذلك بمنزلة المنسي، فتركهم من رحمته، وسمّاه باسم الذّنب لمقابلته، لأنه جزاء وعقوبة على الفعل، وهو مجاز كقولهم: الجزاء بالجزاء، وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠] ونحو ذلك.
٤- سبب العذاب للكفار والمنافقين واحد في كل العصور: وهو إيثار الدّنيا على الآخرة والاستمتاع بها، وتكذيب الأنبياء والمكر والخديعة والغدر بهم. وقد وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم، لفعلهم أفعال الذين من

صفحة رقم 300

قبلهم كالأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف. جاء
في الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟».
وقال ابن عباس ونحوه عن ابن مسعود: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل، شبّهنا بهم.
٥- آية كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ دلّت على مشروعية القياس، وإلحاق النظائر والأشباه ببعضها، ويؤيّدها قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر ٥٩/ ٢].
٦- لا ثواب على أعمال الكفار في الآخرة: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت حسناتهم وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فلم يحصلوا على الثواب.
٧- إن إهلاك الأمم والأقوام الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الأنبياء فيه عظة وعبرة للمعتبر من العقلاء.
٨- لا عقوبة إلا بذنب: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء، ويصدر منهم ما يستحقون به العذاب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.

صفحة رقم 301
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية