
وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا شَرَحْنَاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ تَابُوا وَاهْتَدَوْا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَبَّأَتْهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، بِمَا سَقَطَ بِهِ اسْتِشْكَالُ بَعْضِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، كَسُلْطَانِهِمُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَاسْتَغْنَيْنَا بِهِ عَمَّا تَكَلَّفَهُ الْمُتَكَلِّفُونَ لِحَلِّ الْإِشْكَالِ.
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ
قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكِمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
هَذَا بَيَانٌ عَامٌّ لِحَالِ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، مَقْرُونٌ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ عَلَى فَسَادِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، يَتْلُوهُ ضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ. فَاتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ بَيَانِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ هُوَ مِنْ

قَبِيلِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي رَوَابِطِ الِاجْتِمَاعِ، وَبَيْنَ الْوَقَائِعِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُعَدُّ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالسُّنَنِ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: أَهْلُ النِّفَاقِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُتَشَابِهُونَ فِيهِ وَصْفًا وَعَمَلًا، كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ عَيْنُ الْآخَرِ كَمَا قِيلَ:
تِلْكَ الْعَصَا مِنْ هَذِهِ الْعُصَيَّهْ | هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّهْ |
مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ، وَمِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ وَالْفُجُورُ وَالْغَدْرُ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَنْهَوْنَ عَنْهُ الْجِهَادُ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِ الْقِتَالِ. كَقَوْلِهِمُ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَتِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (٦٣: ٧).
وَقَبْضُ الْأَيْدِي: ضَمُّ أَصَابِعِهَا إِلَى بَاطِنِ الْكَفِّ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْبَذْلِ، كَمَا أَنَّ بَسْطَ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَالْبَذْلِ، فَهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْبَذْلِ، وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمُ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا، وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى النِّفَاقِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَقْوَى الْآيَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ كَثِيرَةٌ جِدًّا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْأَنْفَالِ وَهَذِهِ السُّورَةِ.
نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ أَيْ: نَسُوا اللهَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ لَمْ يَعُدْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ، فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ صفحة رقم 460

فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ مِنَ الرِّيَاءِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَذَّرَهُمْ رَبُّهُمْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَلَاسِيَّمَا فِي الْبُخْلِ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (٢: ٢٦٨) الْفَحْشَاءُ: مَا فَحُشَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْبُخْلِ الشَّدِيدِ، وَفُسِّرَتْ بِهِ فِي الْآيَةِ كَمَا فُسِّرَ الْفَاحِشُ بِالْبَخِيلِ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي | عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ |
ثُمَّ قَفَّى تَعَالَى عَلَى بَيَانِهِ حَالَهُمْ هَذِهِ بِذِكْرِ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ وَلِإِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا الْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِيمَا يَنْفَعُ وَفِيمَا يَضُرُّ، وَالْوَعِيدُ خَاصٌّ بِالثَّانِي، وَلَا يَكَادُ يُذْكَرُ الْوَعْدُ فِيهِ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ (ص٣٧٨) مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَافِقَاتِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ فِي النِّسَاءِ نِفَاقًا كَالرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي طِبَاعِ النَّاسِ، كَمَا قَرَنَ ذِكْرَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي صِفَاتِ الْإِيمَانِ
وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَعَمِلُوا أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ - شَرٌّ مِنَ الْكُفَّارِ الصُّرَحَاءِ، وَلَاسِيَّمَا الْمُتَدَيِّنِينَ مِنْهُمْ بِأَدْيَانٍ بَاطِلَةٍ مِنَ الْأَصْلِ أَوْ مُحَرَّفَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَبَيَّنَا وَجْهَهُ. صفحة رقم 461