
(٤) ذكر فى سورة الأنفال الترغيب فى إنفاق المال فى سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه فى براءة.
(٥) جاء فى الأولى ذكر المنافقين والذين فى قلوبهم مرض- وفصل ذلك فى الثانية أتمّ تفصيل.
[تنبيه] لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة فى أولها، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة.
وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم الله موصوفا بالرحمة يوجبه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
تفسير المفردات
البراءة: من برىء من الدّين إذا أسقط عنه، ومن الذنب ونحوه: إذا تركه وتباعد عنه، والمعاهدة: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها، وكان كل فريق يضع يمينه فى يمين الآخر ويوثقونها بالأيمان، ومن جراء ذلك سميت أيمانا فى قوله تعالى:

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم، والسياحة فى الأرض: الانتقال والتجوال فيها، ويراد بها هنا حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال، وقوله: غير معجزى الله، أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن والخزي: الذل والفضيحة بما فيه عار، والأذان: الإعلام بما ينبغى أن يعلم، ويوم الحج الأكبر: هو يوم النحر الذي تنتهى فيه فرائض الحج ويجتمع فيه الحاج لإتمام مناسكهم، ثم لم ينقصوكم شيئا، أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا أحدا منكم ولم يضروكم، ولم يظاهروا: أي لم يعاونوا.
المعنى الجملي
بعث الله محمدا ﷺ خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحد يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا فى دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف فى ذلك العصر، وعاهد النبي ﷺ أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السّلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين فى الحديبية على السّلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لاعن ضعف وقله، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة فى عهده ﷺ كما دخلت بكر فى عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح

ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خضدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم مازالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم فى حالى القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولا سيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.
من جرّاء هذا جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي ﷺ وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ».
الإيضاح
(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة آتية من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما يقال: هذا كتاب من فلان إلى فلان. نسبه إلى الله ورسوله من قبل أنه تشريع جديد شرعه الله وأمر رسوله يتنفيذه ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد لأنه عقده بوصف كونه الإمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقوّاد من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح ونحوها.
قال البغوي: لما خرج النبي ﷺ إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» اه. قال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون فى هذه الآية اختلافا كثيرا، فقال قائلون: هذه الآية لذوى العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن

له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت، لقوله تعالى: «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» ولما سيأتى
فى الحديث: «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته»
وهذا أحسن الأقوال وأقواها واختاره ابن جرير رحمه الله اه.
(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هذا خطاب من الله للمؤمنين مبيّن لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برىء الله ورسوله من عهودهم، أي قولوا لهم: سيروا فى الأرض وأنتم آمنون لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذى الحجة من سنة تسع للهجرة وهو يوم النحر الذي بلّغوا فيه هذه الدعوة، وتنتهى فى عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر.
والحكمة فى تحديد هذه المدة أن يكون لديهم فسحة من الوقت للنظر والتفكر فى عاقبة أمرهم، والتخير بين الإسلام والاستعداد للقتال، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم، وهذا منتهى ما يكون من السجاحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين، حتى لا يقال إنه أخذهم على غرة.
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي واعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تفوتوه فتجدوا مهربا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله، بل سيسلط المؤمنين عليكم ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به، والعاقبة للمتقين فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم فى معاداتهم وقتالهم لرسله فى الدنيا والآخرة كما جاء فى مشركى مكة ومن نحا نحوهم: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
(وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي هذا إعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافات

شركهم وضلالهم فى وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام، وهو يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنتهى فرائض الحج، ويجتمع الحجاج لإتمام مناسكهم وسننهم فى منى.
ثم أكد ما يجب أن يبلّغوه بلا تأخير بقوله:
(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي قولوا لهم: فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم بنقض العهد وقبلتم هدى الإسلام، فذلك خير لكم فى الدنيا والآخرة، لأن فى هدايته سعادتكم فيهما.
(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه فلن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وبشر أيها الرسول الكريم من جحد رسالتك ولم يؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر بعذاب أليم فى الآخرة.
وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل، واستعمال البشارة فيما يسوء ويكره ضرب من التهكم كما لا يخفى.
(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي لا تمهلوا الناكثين للعهود فوق أربعة أشهر، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم، فلا تجروهم مجرى الناكثين فى المسارعة إلى قتالهم، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم بشرط ألا ينقصوا شيئا من شروط الميثاق ولا يضاروكم، ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم، كما عدت بنو بكر على خزاعة فى غيبة رسول الله ﷺ فظاهرتهم قريش بالسلاح.
وفى ذلك إيماء إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا، وإلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وإلى أن من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدو المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره بنصه وفحواه، فإن نقص شيئا منه وأخلّ بغرض من أغراضه عدّ ناقضا له كما قال: (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً)

ويدخل فى الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين، لأن المقصد من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون نقض العهد وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام وتمنع جريان العدل بين الناس وفى ذلك إيماء إلى أن مراعاة حقوق العهد تدخل فى حدود التقوى، وإلى أن التسوية بين الوفىّ والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
وقد ورد فى تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها: أي التبليغ العلنى أحاديث
فى الصحاح أشهرها «أن النبي ﷺ جعل أبا بكر رضى الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام، ثم أردفه بعلىّ كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا فى أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة، وهى نحو أربعين آية.
وقد كان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأن عليّا اختص بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبى بكر، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبى هريرة.
روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: بعثني أبو بكر فى تلك الحجة فى مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله ﷺ بعلى بن أبى طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.