آيات من القرآن الكريم

إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

وذلك يوم النحر بمنى سنة تسع.
روى الإمام أحمد والترمذي في التفسير عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عليا سنة تسع، فأذن يوم النحر بمنى بصدر سورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وروى أحمد والترمذي والنسائي عن زيد بن يثيغ رجل من همدان قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر في الحجة، قال: «بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا».
نقض عهود المشركين وإعلان الحرب عليهم والبراءة منهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)

صفحة رقم 97

الإعراب:
بَراءَةٌ خبر مبتدأ محذوف، أي هذه براءة، ويكون مِنَ اللَّهِ في موضع رفع لأنه وصف براءة وتقديره: براءة كائنة من الله. ويجوز أن تكون بَراءَةٌ مبتدأ وخبره: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ. ومِنَ اللَّهِ وصف لبراءة، ومِنَ لابتداء الغاية متعلق بمحذوف.
وَأَذانٌ معطوف على بَراءَةٌ، ورفعه مثل الوجهين المذكورين في بَراءَةٌ من أنه خبر مبتدأ محذوف، أو أنه مبتدأ، ويكون خبره إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ. ومِنَ اللَّهِ وصف لأذان. ويَوْمَ الْحَجِّ: العامل فيه الصفة. ولا يجوز أن يكون أَذانٌ لأنه وصف، والمصدر إذا وصف لم يعمل عمل الفعل.
أَنَّ اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي بأن وَرَسُولِهِ بالرفع والنصب، فالرفع من وجهين: أحدهما- أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي ورسوله بريء، وحذف لدلالة الأول عليه. والثاني- أنه معطوف على الضمير المرفوع في بَرِيءٌ وجاز العطف على الضمير المرفوع وإن لم يؤكد، لوجود الفصل بالجار والمجرور لأنه يقوم مقامه. أو معطوف على محل: إن واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول. وأما بالنصب فهو عطف على اسم أَذانٌ أو لأن الواو بمعنى مع.
ولا تكرار لمعنى بَراءَةٌ لأن قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ إخبار بثبوت البراءة وبَرِيءٌ إخبار بوجوب الاعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس، ولم يخص بالمعاهدين.
البلاغة:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تنوين بَراءَةٌ للتفخيم، وتقييدها بأنها مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لزيادة التهويل. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا أسلوب تهكمي لأن البشارة بالعذاب، وهي تكون عادة بما هو مفرح.
المفردات اللغوية:
بَراءَةٌ أي تبرؤ من الله ورسوله، يقال: برئ من العهد أو المرض: خلص منه، وبرئ من الذنب: تركه وتباعد عنه، وبرئ من الدين: أسقط عنه. عاهَدْتُمْ المعاهدة: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها. وكانت توثق بالأيمان بوضع كل فريق يمينه في يمين الآخر، فسميت أيمانا في قوله تعالى: إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا عهود لهم. والمراد من المعاهدين هنا:
ذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، وكذا من

صفحة رقم 98

كان له عهد فوقها ونقض العهد. أما من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، لقوله تعالى:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ الآية،
وللحديث: «ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عهد، فعهده إلى مدته»
قال ابن كثير: وهذا أحسن الأقوال وأقواها.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ سيروا آمنين أيها المشركون في الأرض مدة أربعة أشهر، والمراد حرية الانتقال مع الأمان هذه المدة دون قتال فيها، وأولها شوال، بدليل قول الزهري: إن براءة نزلت في شوال. ولا أمان لكم بعدها. والسياحة والسيح: الانتقال في الأرض بحرية غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه من عذابه بالهرب والتحصن وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ مذلّهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، والخزي: الذل والفضيحة بما هو عار.
وَأَذانٌ إعلام يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم العيد الأكبر وهو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الحجيج لإتمام مناسكهم، وإنما قيل: الأكبر من أجل قول الناس عن العمرة: الحج الأصغر أَنَّ اللَّهَ أي بأن الله بريء من عهود المشركين وَرَسُولِهِ بريء أيضا فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان وَبَشِّرِ أخبر بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة. ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد والميثاق، فلم يقتلوا أحدا ولم يضروه. وَلَمْ يُظاهِرُوا يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من الكفار فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى انقضاء مدتهم التي عاهدتم عليها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ بإتمام العهود.
المناسبة:
كان هناك عهد عام بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة وغيرهم على ألا يصدّ عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم، وكانت هناك أيضا عهود بينه عليه الصلاة والسّلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال معينة، فنقض كثير من المشركين عهودهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، مما اقتضى نزول البراءة من عهودهم.
التفسير والبيان:
نزلت آيات بَراءَةٌ الأولى في أهل مكة في السنة التاسعة، بعد أن عاهدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية سنة ست هجرية، فنقضوا العهد، إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأمر المسلمون بالتبرؤ من عهود المشركين وإمهالهم أربعة

صفحة رقم 99

أشهر، فإذا انتهت هذه المدة قاتلوهم.
والمراد بالعهود: العهود المطلقة غير المؤقتة بزمن، ومن كان له عهد دون أربعة أشهر فتكمل له هذه المدة، وأما من عهده مؤقت بمدة فوق ذلك فأجله إلى مدته، مهما كان لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [براءة ٩/ ٤].
هذا أصح الأقوال الذي اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما. قال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ.
وقد أمّر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم- كما أوضحت- أبا بكر في السّنة التّاسعة أميرا على الحجّ، فلما سافر نزلت سورة براءة متضمّنة نقض عهد المشركين، فأرسل عليّا ليبلّغ ذلك النّاس يوم الحجّ الأكبر قائلا: «لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي». فلما اجتمع الناس بمنى يوم النّحر، قرأ عليهم علي آيات من أول سورة براءة، ثم قال- فيما رواه التّرمذي والنسائي وأحمد-: بعثت بأربع:
ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.
ومعنى الآية: بَراءَةٌ أي تبرؤ وتخلص، وهي براءة صادرة من الله ورسوله، واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله لأنها تشريع جديد من الله، وأمر لرسوله بتنفيذه، وتنويه بمقامه ومكانته.
ونسبت المعاهدة بقوله: عاهَدْتُمْ للمؤمنين لأنهم هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، مع أن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي عقد العهد بوصفه قائد الأمّة. قال الجصّاص: البراءة: هي قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان.

صفحة رقم 100

براءة إلى أهل العهد المشركين، وهم أهل مكة وخزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم من العرب، أي إن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم لأنهم ما عدا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة نكثوا العهد، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا، لا يتعرض لهم.
وقوله: فَسِيحُوا عدول من الخبر إلى الخطاب، أي قل لهم: سيحوا، أي سيروا في الأرض آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين. وتبيّن بالآية أن هذه البراءة وهذا النّبذ إليهم، إنما هي بعد أربعة أشهر، وأن عهد المعاهدين باق إلى آخر هذه المدّة «١».
وحددت لهم هذه المدّة ليفكروا في أمرهم، فيختاروا إما الإسلام وإما القتال، ولتكون لديهم فرصة للاستعداد للقتال، إذا أصرّوا على شركهم وعداوتهم. وهذا منتهى التّسامح والإنذار، حتى لا يتهم المسلمون بأخذهم فجأة على غرّة.
والأربعة الأشهر في رأي السيوطي هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم لأنه روي عن الزّهري: أن براءة نزلت في شوال.
وقال آخرون كالزّمخشري والرّازي والقرطبي وابن كثير: هي الأشهر الحرم في قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وهي عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وهذا هو القول الأصحّ في تقديري
لأن الإمام علي رضي الله عنه قرأ أوائل سورة براءة على الناس يوم النّحر في منى.

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٧٧

صفحة رقم 101

وليس المراد بالأشهر الأربعة هي الأشهر الحرم المعروفة، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب كما ارتأى ابن جرير نقلا عن ابن عباس لأن ذلك مخلّ بالنّظم القرآني، مخالف للإجماع لأن حرمة هذه الأشهر قد نسخت، ومثل هذا القول يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. وإنما المراد أشهر التّسيير الأربعة المذكورة آنفا.
والحكمة في إعطاء براءة لعليّ رضي الله عنه لتبليغها: أن براءة تضمّنت نقض العهد الذي كان عقده النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحلّ العقد إلا الذي عقده، أو رجل من أهل بيته، فأراد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلّم.
وتضمّنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين، وذلك في حالتين:
حالة انقضاء مدّة المعاهدة، فنؤذنهم أي نخبرهم بالحرب، وحالة نقض العهد منهم، أو خوف الغدر منهم، فننبذ إليهم عهدهم.
ثم قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ... أي واعلموا علم اليقين أنكم لن تفلتوا من عذاب الله بالهرب والتّحصن إن بقيتم على شرككم وعداوتكم، وإن أمهلكم، وهو مخزيكم أي مذلّكم في الدّنيا بالقتل، والآخرة بالعذاب في النّار، كما قال تعالى في مشركي مكة وأمثالهم: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الزّمر ٣٩/ ٢٥- ٢٦].
وبعد أن أعلن الله براءته من المشركين، أمر بإعلان هذه البراءة للناس قاطبة، فقال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ... أي وإعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين إلى الناس جميعا، يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النّحر الذي تنتهي

صفحة رقم 102

فيه فرائض الحجّ، وأفضل أيام المناسك، ويجتمع فيه الحجاج في منى لإتمام مناسكهم.
فليس بين البراءتين تكرار لأن البراءة الأولى مختصة بالمعاهدين والنّاكثين العهد منهم، وأما الأذان بالبراءة فعام لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين، ومن لم ينكث.
وسمّي الأكبر لأنه حجّ فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. ويوم الحجّ الأكبر في رأي ابن عباس في رواية عنه، وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة، وهو مذهب مالك: هو يوم النّحر لأن يوم النّحر فيه الحجّ كله لأن الوقوف بعرفة في ليلته، والرّمي والنّحر والحلق والطّواف في صبيحته.
وهو في رأي عمر وعثمان، وابن عباس في رواية أخرى، وطاوس ومجاهد، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: يوم عرفة
لحديث مخرمة أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «يوم الحج الأكبر: يوم عرفة».
وروي عن عطاء ومجاهد: الحجّ الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر: العمرة. أي أنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر.
وكان علي هو المخبر بنقض العهد، مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، كما تقدّم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذنين بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» ثم أردف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذّن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
ثم أكّد الله تعالى الاعلام أو التّبليغ الفوري فقال: فَإِنْ تُبْتُمْ... أي قولوا لهم: فإن تبتم عن الشرك فهو خير لكم، أي أنفع لكم في الدّنيا والآخرة.

صفحة رقم 103

وإن توليتم عن الإيمان، وأعرضتم عن الإسلام، فاعلموا أنكم غير معجزي الله، أي فائتي عذابه، فلن تفلتوا منه، فإنه محيط بكم، ومنزل عقابه عليكم، ولا طاقة لكم بحربه في الدّنيا، ووعده لرسله وللمؤمنين بالنّصر عليكم.
وبشّر أيها الرّسول من أنكر رسالتك، ولم يؤمن بالله وملائكته بعذاب مؤلم شديد الألم في الآخرة. وهذا أسلوب تهكّمي واستهزاء إذ استخدم البشارة بالسّوء محل الإنذار.
ثم استثنى الله تعالى من مدّة التّأجيل بأربعة أشهر لأصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة: من له عهد مؤقت، فأجله إلى انتهاء مدة عهده التي عوهد عليها، فقال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ... أي إن الإخبار بنقض العهد يسري على جميع المشركين إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم، ثم لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد، ولم يظاهروا- يعاونوا- عليكم عدوا، كبني ضمرة وبني كنانة فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، بشرط ألا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين أحدا، أي يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمّته وعهده، وأكّد تعالى وجوب الوفاء بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي الموفين بعهدهم.
قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم.
وهذا دليل قاطع على حرمة المعاهدات في الإسلام، وأن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دامت مدّة المعاهدة قائمة، وأن العهد المؤقّت لا ينقض إلا بانتهاء وقته، وأن مراعاة شروط المعاهد من مظاهر التّقوى ومشتملاتها.

صفحة رقم 104

فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:
١- نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقّتة بزمن لأنهم نكثوا العهد وأخلّوا بشروط التّعاهد.
٢- من كان له عهد دون أربعة أشهر، تكمل له مدّة أربعة أشهر.
٣- مدة الأمان وحريّة الانتقال والتّأمل في المصير، إما باعتناق الإسلام أو بالدّخول في القتال: هي أربعة أشهر، تبدأ بعد عيد الأضحى أو يوم النحر، وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر سنة عشر. وهي دليل واضح على حرص الإسلام على تسوية العلاقات الخارجية مع الأعداء على أساس من السّلم والأمن والتّفاهم.
٤- من كان له عهد مؤقّت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدّته، مهما كان، ما لم ينقض العهد، أو يخلّ بشرط من شروطه.
٥- الإسلام يقدّس العهود ويوجب الوفاء بها ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله تعالى.
٦- لن يعجز الله أحد من الكفار ولن يفوت من العقاب في الدّنيا، وللكافرين عذاب أليم في الآخرة، كيلا يظن أحد أنّ عذاب الدّنيا لما فات وزال، فقد تخلّص من العذاب، بل العذاب الشّديد معدّ له يوم القيامة.
٧- إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة يدخل في النّفس الرّهبة الشّديدة والخوف الأشدّ.
٨- لا يأس في شرعة القرآن، فقد فتح الله باب التوبة والأمل أمام الكفار، وهددهم بالعذاب إن تولوا عن الإسلام.

صفحة رقم 105
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية