
إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم [سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
المفردات:
بَراءَةٌ يقال: برىء من العهد أو المرض براءة: خلص منه. فَسِيحُوا السياحة والسيح: الذهاب في الأرض حسبما يشاء الشخص. وَأَذانٌ أى:
إعلام. يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ المراد: يوم العيد.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله- تعالى- فنكثوا عهودهم، إلا بنى ضمرة وبنى كنانة، فأمر المسلمون بنكث عهد الناكثين وإمهالهم أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فإذا انقضت الهدنة ومضت المدة قاتلوهم.
كان هذا في السنة التاسعة وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يحج بالناس فلما سافر نزلت

سورة التوبة وفيها نقض عهود المشركين، فأمر عليا أن يبلغ ذلك الناس يوم الحج الأكبر قائلا:
«لا يبلغ عنى إلا رجل منى»
فلما اجتمعوا بمنى يوم النحر قرأ عليهم علىّ آيات من أول هذه السورة ثم قال: أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده...
المعنى:
هذه براءة مبتدأة من الله ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله مع شمولها للمسلمين ونسبت المعاهدة للمسلمين فقط مع أنها بإذن الله واتفاق رسول الله، للإشارة إلى وجوب تنفيذ نقض العهد، وأنه صادر من الله ورسوله، ولا حرج عليكم أبدا فيه، فهو أمر واجب الامتثال، وهو لحكمة الله يعلمها، وأما المعاهدة فهي كبقية العقود أمرها الظاهر المشاهد أنها مع المسلمين، وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله: براءة من الله ورسوله مع عدم ذكره في المعاهدة عاهَدْتُمْ للتنويه بمقامه المحمود، ومكانه المرموق مع المولى جل شأنه.
هذه براءة من الله ورسوله، وتخلص من عهود المشركين، وإيذان لهم بالحرب، وإعطاؤهم فرصة للاستعداد مع التحدي الكامل لهم، حيث أمروا بالسير في الأرض والسياحة فيها حسب مشيئتهم وهواهم ليحصنوا أنفسهم وأموالهم، إذ ليس المراد أمر المشركين بالسياحة في الأرض وأقطارها أربعة أشهر.
فسيحوا في الأرض واستعدوا في هذه المدة، واعلموا علما أكيدا، أنكم غير معجزي الله أبدا، وأن الله مخزيكم ومذلكم فأنتم كفرتم بالله ورسوله ونقضتم عهودكم مع المسلمين مرارا، وقد يتحقق الموعود به بالأسر والقتل، وإعلاء كلمة الله، وذهاب الشرك إلى حيث لا رجعة، هذا هو الخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد أعد لهم.
أمرهم الله أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة سنة تسع

وهو يوم الحج الأكبر (يوم النحر) الذي بلغ فيه علىّ- رضى الله عنه- وتنتهي في عاشر ربيع الآخرة سنة عشرة.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ
ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته».
وأما من لم يكن له عهد فأجله أن يتم الأربعة أشهر الحرم الدائرة في كل عام وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وعلى هذا تكون مدته خمسين يوما، عشرون باقية من الحجة، وثلاثون هي شهر المحرم.
وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد ارتضاه جمع من العلماء قديما وحديثا واختاره الشيخ محمد عبده في دروسه. أمروا بالسياحة والاستعداد، وأن يعلموا علما أكيدا أنهم غير معجزي الله أبدا، وأن الله مخزيهم ومذلهم، لأنهم كفروا بالله، ورسوله... وأذان من الله ورسوله، وإعلام تام منهما إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم (وكان ذلك على لسان على بن أبى طالب سنة تسع في السنة التي حج فيها أبو بكر بالناس كما تقدم) ليعلم الكل أن الله برىء من المشركين، ومن عهودهم، ورسوله كذلك برىء، وأما المسلمون فهم حزب الله وأتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم وداخلون في ذلك دخولا أوليا، وهذا إنذار شديد للمشركين!!! فإن تبتم أيها المشركون ورجعتم عن الشرك وآثامه فهو خير لكم وأى خير؟!!... وإن توليتم وأعرضتم عن الإسلام فاعلموا أنكم غير معجزي الله، ولا طاقة لكم بحربه في الدنيا، وأما في الآخرة فبشرهم يا محمد- فأنت أدرى بأحوال الآخرة وأنت البشير النذير- بشرهم بعذاب أليم غاية الألم.
هذا الأذان بنقض العهد يسرى على المشركين جميعا إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم ثم لم ينقصوكم شيئا من العهود ولم يخلوا بشرط من الشروط، أى: حافظوا على نصوص المعاهدة وروحها. ولم يظاهروا عليكم أحدا، ولم يعينوا عليكم عدوا كبني ضمرة وبنى كنانة، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين الخائفين من عذابه الذين يوفون بعهدهم إلا مع المشركين الناقضين العهد.