
حَجُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. قُلْتُ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ إِشَارَةً أَوْ بِشَارَةً بِتَحَقُّقِ مَا شُرِعَ لَهُ الْإِسْلَامُ بِإِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجَمْعِهِ الْكَلِمَةَ وَاهْتِدَاءِ الْأُمَمِ بِهِ.
وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يُؤَيِّدُهَا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ، لَخَّصَ بَعْضَهَا مُحَمَّدُ لَبِيبٌ بِكِ الْبَتَانُونِيُّ فِي رِحْلَتِهِ الْحِجَازِيَّةِ قَالَ: إِنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنَحْوٍ مِنْ ٢٧ قَرْنًا ذَاتَ مَنْزِلَةٍ سَامِيَةٍ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَثَنِيِّيهِمْ وَيَهُودِهِمْ وَنَصَارَاهُمْ، وَقَدْ تَجَاوَزَتْ مَكَانَتُهَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ رُوحَ (هُرْمُزَ) نُقِلَتْ فِي الْكَعْبَةِ، ثُمَّ إِلَى بِلَادِ الْهُنُودِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ رُوحَ (شَبَوْهَ) أَحَدَ آلِهَتِهِمْ قَدْ تَقَمَّصَتْ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَقُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْحِجَازَ بِالْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ. وَالْيَهُودُ كَانُوا يَحْتَرِمُونَهَا وَيَتَعَبَّدُونَ فِيهَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَكُنِ احْتِرَامُهُمْ لَهَا بِأَقَلَّ مِنِ احْتِرَامِ الْيَهُودِ إِيَّاهَا، وَكَانَ لَهُمْ فِيهَا صُوَرٌ وَتَمَاثِيلُ مِنْهَا تِمْثَالُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، وَصُورَةُ الْعَذْرَاءِ وَالْمَسِيحِ إِلَى أَنْ قَالَ:
هَكَذَا كَانَ شَأْنُ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دِيَانَاتِهِمْ عَلَى احْتِرَامِهَا، وَاتَّخَذَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُ اللهَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ إِلَخْ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

هَذَا السِّيَاقُ مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا كَانَتْ وَسِيلَةً لَهُ مِنْ هَتْكِ أَسْتَارِ النِّفَاقِ، وَتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَوَامِلِ الشِّقَاقِ. إِلَّا الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِهَا، وَمَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ قِتَالُهُمْ فِي تَبُوكَ: هُمُ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمُ الْمُسْتَعْبَدُونَ مِنْ عَرَبِ الشَّامِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي حُكْمِ قِتَالِ الْيَهُودِ وَقِتَالِهِمْ، وَبَيَانِ حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَهَمُّهَا خُرُوجُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي كُلٍّ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ. وَكَانَ ذِكْرُ النَّسِيءِ فِي آخِرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ بَيَانَ سَبَبِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَفَاءً بِمَا وَعَدْنَا بِهِ فَنَقُولُ:
غَزْوَةُ تَبُوكَ وَسَبَبُهَا:
تَبُوكُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَدِمَشْقَ تَقْرِيبًا. وَقَالُوا: إِنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ إِحْدَى
عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَاللَّفْظُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ عَلَى الْأَشْهَرِ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا - أَيِ الْغَزْوَةِ - مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْبَاطِ الَّذِي يَقْدَمُونَ بِالزَّيْتِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ الرُّومَ جَمَعَتْ جُمُوعًا، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُمْ لَخْمَ وَجُذَامَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَتْ مُقَدِّمَتُهُمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ. فَنَدَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِجِهَةِ غَزْوِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَتَبَتْ إِلَى هِرَقْلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَرَجَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ هَلَكَ، وَأَصَابَتْهُمْ سِنُونَ فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ قَبَادُ وَجَهَّزَ مَعَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ قُوَّةٌ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ جَهَّزَ عِيرًا إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ - أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ - قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَا يَضُرُّ عُثْمَانُ مَا عَمِلَ بَعْدَهَا " وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُبَابٍ نَحْوَهُ. وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ فِي (شَرَفِ الْمُصْطَفَى) وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَالْحَقْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ. فَغَزَا تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا (١٧: ٧٦) الْآيَةَ. انْتَهَى. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ

الْحَافِظُ، وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ فِي السَّبَبِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمَا نَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا قَالُوا؟ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَإِجْلَائِهِمْ. وَالْعَجِيبُ مِنَ الْحَافِظِ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ فِي التَّقْرِيبِ إِنَّهُ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَعِلْمِهِ وَنَقْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ؟ وَقَدْ صَرَّحَ السُّيُوطِيُّ
بِضَعْفِ الْحَدِيثِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ مَا بَذَلَهُ عُثْمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ.
وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَتْ بَعْدَ الطَّائِفِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ يَجْعَلُ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ بَعْدَ عَوْدَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهُوَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ. قَالَهُ الْحَافِظُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّمْهِيدِ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ اسْتِعْدَادُ الرُّومِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِعْدَادُ جَيْشٍ كَثِيفٍ لِلزَّحْفِ بِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَهِيَ كَسَائِرِ غَزَوَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِفَاعٌ لَا اعْتِدَاءٌ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَاتِلُهُ عَادَ، وَلَمْ يُهَاجِمْ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا لِمَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ تَرْبِيَةً لَهُمْ بِمَا لَعَلَّهُ وَقَعَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَمِنْهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمُنَافِقُونَ. وَالنَّفْرُ وَالنَّفِيرُ عِبَارَةٌ عَنْ فِرَارٍ مِنَ الشَّيْءِ أَوْ إِقْدَامٍ عَلَيْهِ بِخِفَّةٍ وَنَشَاطٍ وَانْزِعَاجٍ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ بِمَعْنَى الْفَزَعِ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ. يُقَالُ: نَفَرَتِ الدَّابَّةُ وَالْغَزَالُ نُفُورًا، وَنَفَرَ الْحَجِيجُ مِنْ عَرَفَاتٍ نَفْرًا، وَاسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ الْعَسْكَرَ إِلَى الْقِتَالِ أَوْ أَعْلَنَ النَّفِيرَ الْعَامَ فَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا، وَالتَّثَاقُلُ التَّبَاطُؤُ فَهُوَ ضِدُّ النَّفْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثِّقَلِ الْمُقْتَضِي لِلْبُطْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَةِ النَّفِيرِ، وَعَلَى مَنْ حَاوَلَ أَوِ اسْتَجَابَ مُتَبَاطِئًا. وَأَصْلُ (اثَّاقَلْتُمْ) تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتِ الْمُثَنَّاةُ فِي الْمُثَلَّثَةِ فَجِيءَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ لِأَجْلِ النُّطْقِ بِالسَّاكِنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَبْدَأُ بِالسَّاكِنِ، وَلَا تَقِفُ عَلَى الْمُتَحَرِّكِ، وَقَدْ عُدِّي بِـ (إِلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّسَفُّلِ وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ وَالْمَيْلِ إِلَى رَاحَتِهَا وَنَعِيمِهَا.
وَلَمَّا دَعَا اللهُ الْمُؤْمِنِينَ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ الْحَرِّ، وَكَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ
بِالرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَتَيِ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ، وَكَانَتِ الْعُسْرَةُ شَدِيدَةً، وَكَانَ مَوْسِمُ الرُّطَبِ فِي الْمَدِينَةِ

قَدْ تَمَّ صَلَاحُهُ، وَآنَ وَقْتُ تَلَطُّفِ الْحَرِّ وَالرَّاحَةِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَجَبٍ وَافَقَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بُرْجَ الْمِيزَانِ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالصَّيْفِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَبَعْدَ الطَّائِفِ، بِأَمْرِهِمُ النَّفِيرَ فِي الصَّيْفِ حِينَ اخْتَرَقَتِ النَّخْلُ وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهُوا الظِّلَالَ وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ. (قَالَ) فَقَالُوا: مِنَّا الثَّقِيلُ وَذُو الْحَاجَةِ وَالضَّيْعَةِ وَالشُّغْلِ وَالْمُنْتَشِرُ بِهِ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَكَانَ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةٍ أَنْ يُوَرِّيَ بِغَيْرِهَا لِمَا تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةُ الْحَرْبِ مِنَ الْكِتْمَانِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَدْ صَرَّحَ بِهَا؛ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَصِيرَةٍ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ. فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْخُرُوجُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَتْ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى فِي إِخْرَاجِهِمْ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ فِيهَا قِتَالًا - مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهَا مِنْ تَمْحِيصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخِزْيِ الْمُنَافِقِينَ، وَفَضِيحَتِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ مَاذَا عَرَضَ لَكُمْ مِمَّا يُنَافِي صِحَّةَ الْإِيمَانِ أَوْ كَمَالِهِ الْمُقْتَضِي لِلْإِذْعَانِ وَالطَّاعَةِ، حِينَ قَالَ لَكُمُ الرَّسُولُ: انْفرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِقِتَالِ الرُّومِ الَّذِينَ تَجَهَّزُوا لِقِتَالِكُمْ، وَالْقَضَاءِ عَلَى دِينِكُمُ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ السَّبِيلُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ وَسُنَنِهِ، فَتَثَاقَلْتُمْ عَنِ النُّهُوضِ بِالنَّشَاطِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، مُخْلِدِينَ إِلَى أَرْضِ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَآيَةُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٤٩: ١٥).
أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ أَيْ: أَرَضِيتُمْ بِرَاحَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا النَّاقِصَةِ الْفَانِيَةِ بَدَلًا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْكَامِلَةِ الْبَاقِيَةِ؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
فَقَدِ اسْتَبْدَلْتُمُ الَّذِي هُوَ أَدْنَأُ وَأَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ أَيْ: فَمَا هَذَا الَّذِي يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مُنَغَّصًا بِالشَّوَائِبِ وَالْمَتَاعِبِ فِي جَنْبِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ الْعَظِيمِ، إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُؤْثِرُهُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَعِيمَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَفِي قِلَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَزَمَنِهِ بِمَنْ وَضَعَ أَصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْهُ قَالَ: " فَانْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ "؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.