وحديث رواه الإمام أبو عبيد بن القاسم في كتاب الأموال وهو «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» «١». وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس عن النبي ﷺ جاء فيه: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» «٢».
ومما لا شكّ فيه أن النبي ﷺ قد هدف بذلك إلى غاية عظيمة. وهي تحصين جزيرة العرب من تعدد الأديان وما يؤدي هذا إليه من شقاق ونزاع ودسائس ومكائد وجعلها بلادا خالصة للإسلام وحده. وهي موطن الجنس العربي الذي حمل راية الإسلام. ومهبط الوحي الإلهي على نبي الإسلام. وفي هذا كلّ الحكمة والحق.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥).
(٢) التاج ج ٤ ص ٣٦١.
(١) الجزية. قيل إنها من الجزاء بمعنى المكافأة والمقابلة. وقيل إنها الإجزاء بمعنى الإكفاء، وقيل إنها من الجزي بمعنى القضاء، وعلى القول الأول يكون معناها في مقامها (جزاء إقرار أهل الكتاب على ما هم عليه) وعلى القول الثاني (اجتزاء بها عن إسلامهم) وعلى القول الثالث (قضاء ما عليهم) وعلى كل حال فالكلمة اصطلاح للضريبة التي يدفعها المغلوب المستسلم لغالبه مقابل إقراره على ما هو عليه والدفاع عنه. ونرجح أنها كانت في هذا المعنى في اللغة قبل الإسلام أيضا. ولقد قال بعضهم «١» إنها فارسية معربة من لفظ (كزيت) وكان الفرس يستعملونها في المعنى المراد منها. وقد يكون هذا صحيحا. وقد تكون أصالة عروبتها هي الصحيحة. ونحن نميل إلى هذا ما دام في العروبة جذر مناسب لها ولا يبعد أن تكون دخلت إلى اللغة الفارسية وحرّفت فيما بعد. وعلى كل حال فمما لا ريب فيه أن الكلمة بصيغتها مما كان العرب قبل الإسلام يتداولونه في معناها.
(٢) يضاهئون: يشتبهون ويماثلون.
تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ... والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملّة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين
صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله إن النبي صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال: إن لمسلمين لمّا قالوا من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية [٢٩] وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية إن الآية نزلت على رسول الله بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزولها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عزّ وجلّ قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي لم يكن قد حارب الروم ثم أن لا يكون النبي قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأوّلا أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي ﷺ لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهمّا يسدّ ثغرة واسعة في حياة
المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة [٢٨] هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية [٩٤] من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا أن النبي صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [٣٣- ٦٤] من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سريّة في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية «١». ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله ﷺ رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي ﷺ إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي «٢» وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه «٣»، وشلّح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي ﷺ إلى قيصر «٤». وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين إلى آخر لغزو المدينة «٥». فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم
(٢) المصدر نفسه ص ١٧٤. [.....]
(٣) ابن سعد ج ٢ ص ٤٦ و ١١٧.
(٤) ابن سعد ج ٣ ص ١٣١.
(٥) المصدر نفسه ص ١٠٣- ١٠٤ و ١٧٧- ١٨٨.
يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين حيث قاد النبي في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون اشتباك لأن قبائلها فرت وتفرقت «١». ثم سيّر حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلّحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم «٢». ثم سيّر حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية «٣». ثم سيّر جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد «٤». ثم سيّر حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها «٥» حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي ﷺ قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك
(٢) المصدر نفسه ١٣١- ١٣٢.
(٣) المصدر نفسه ص ١٣٢.
(٤) المصدر نفسه ص ١٧٤- ١٧٧ وابن هشام ج ٣ ص ٤٢٧- ٤٤٧.
(٥) ابن سعد ج ٣ ص ٧٧- ٧٨.
وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحثّ والتبرير والتعليل وحسب.
والروايات تذكر أن النبي ﷺ إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام «١» فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبيّ ﷺ لما عاد من تبوك فكّر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول الله ﷺ وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي ﷺ ظلّ يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي ﷺ قبل أن يسير هذا الجيش فسيّره خليفته الأول أبو بكر ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام فسيّر الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر
والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحثّ والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير أَهْلَ الْكِتابِ في الآية الأولى وذكر اليهود مع النصارى في الآيات التالية لها قد قصد به التشريع العام ليشمل اليهود والنصارى في أي ظرف آخر غير الظرف الذي نزلت الآيات فيه. ولقد جاءت الآيات بأسلوب تشريعي مطلق مما فيه تأييد لذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «١» عن أهل التأويل من التابعين في تأويل جملة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وجملة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. فرووا في صدد الأولى أن معناها (لا يحرمون ما حرمه نبينا صلى الله عليه وسلم) كما رووا أن معناها (لا يحرمون ما حرّمه رسلهم وكتبهم). ورووا في صدد الثانية أن معناها (لا يطيعون الله حق الطاعة أو لا يطيعون طاعة أهل الحق)، كما رووا أن معناها (لا يدينون بدين الإسلام). وبعض هذه الأقوال تقتضي أن يكون المسلمون قد أمروا بالآية الأولى بمقاتلة كل كتابي على الإطلاق لا يحرّم ما حرّم الله ورسوله محمد ولا يدين بالإسلام حتى يعطي الجزية للمسلمين. وهذا في اعتقادنا وحسب ما شرحناه في مناسبات سابقة يتناقض مع المبدأ العام المحكم الذي قررته آيات سورة النساء [٩٠- ٩١] وبخاصة آيات سورة الممتحنة [٨- ٩] والذي هو متسق مع المبادئ القرآنية الجهادية عامة على ما شرحناه في المناسبات السابقة. والذي لا يتسق عكسه مع طبائع الأمور بسبب وجود أمم بعيدة لا صلات بينها وبين المسلمين ولا صدام ولا خصام. وبسبب بعد احتمال أمر القرآن بقتال من يمكن أن يكون مسالما موادّا حسن السلوك والنيّة نحو المسلمين وبدليل ما أثر
عن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين من نهي عن قتال وقتل غير المحاربين كالنساء والأطفال والشيوخ والرهبان مما أوردنا نصوصه في تعليقنا المسهب في سورة الكافرون ومناسبات أخرى «١». وقد يكون من الأدلة على ذلك ورود حرف (من) التبعيضية في الآية. وروح الآية والأوصاف المذكورة فيها أولا وروح الآيات الأخرى ثانيا يسوغان الأخذ بالأقوال الأخرى وهي عدم تحريم ما حرّمه الله ورسله في الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء أهل الكتاب وعدم طاعتهم لله حقّ الطاعة وعدم احترامهم حقوق غيرهم ودمائهم وأموالهم مما يدخل فيه العدوان على القوافل وإخافتها وسلب أموالها وقتل أفرادها إلخ. وقد يدعم هذا جملة:
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ التي لا تصح على جميع أهل الكتاب الذين منهم من كان وما يزال يؤمن بالله واليوم الآخر بصورة ما. كذلك مما يدعمه ما ذكرته الآيات من إرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم مما يتسع لمعنى تعطيل الدعوة إلى دين الله والصدّ عنه. وهذا قد نسب بصراحة إلى أحبار اليهود ورهبان النصارى في الآيات مع نسبة أكل أموال الناس بالباطل. وهو من موجبات الجهاد الإسلامي ومبرراته على ما شرحناه في المناسبات السابقة. يضاف إلى ذلك كلّه قيام حالة الحرب بين المسلمين وسكان مشارف الشام والروم منذ السنة الخامسة بسبب عدوانهم بأساليب وصور متنوعة نشأت عنها تلك السلسلة من الحركات الحربية التي ذكرناها ثم تسيير خليفة النبي بعد وفاته الجيوش.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل كذلك في جملة: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ حيث رووا أن معنى عَنْ يَدٍ هو أن تدفع الجزية نقدا لا نسيئة ومن قبل المستحقة عليهم وجاها كما يقول العرب أعطيته يدا بيد وكلمته فما بفم. كما رووا أن معناها القهر لأن العرب يقولون لكل معط لقاهر
له شيئا طائعا أم كارها (إعطاء عن يد). وحيث رووا في صدد كلمة صاغِرُونَ أنها تعبير عن حالة الصغار التي يتلبس بها المعطي وأن الإعطاء هو الصغار كما رووا أنها في صدد إيجاب إعطاء الجزية من قبل أصحابها في حالة تلبس الهوان والذلة كأن يعطوها وهم واقفون لقابضها وهو جالس وكأن يدفعوا أو يلبّبوا أو يصفعوا حينما يعطونها. وقد استنكر الإمام النووي إهانة الكتابيين وصفعهم حين إعطائهم الجزية وقال إنها سيئة باطلة على ما رواه المفسر القاسمي.
والذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تعني حتى يخضعوا ويستسلموا للمسلمين ويرضوا بسلطانهم عليهم، وفي هذا يتحقق هوانهم وصغارهم. ولقد روي أن عياض بن غنم رأى نبطا يعذبون في الجزية فقال للجابي إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا» «١».
وروي أن عمر أتي بمال كثير من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟
قالوا: لا. والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال بلا سوط ولا نوط. قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني «٢».
وروي أن عمر مرّ على قوم أقيموا في الشمس يصبّ فوق رؤوسهم الزيت وهو راجع من الشام فقال ما بال هؤلاء فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها. فهم يعذبون حتى يؤدوها فقال عمر فما يقولون ويعتذرون به. قالوا يقولون لا نجد، قال فدعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة» وأمر بهم فخلّي سبيلهم «٣». ولقد قال الإمام أبو يوسف في كتابه (الخراج) الذي رفعه لهارون الرشيد عن شؤون المال والخراج إنه لا يجوز ضربهم في استيدائهم الجزية ولا يوقع عليهم في أبدانهم شيء من المكاره «٤». والصفع والتلبيب والإهانة من
(٢) المصدر نفسه وفسّر الناشر كلمة (نوط) بالتعليق وهو على ما يبدو نوع من التعذيب.
(٣) كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص ٦٩- ٧٢. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
التعذيب. وإذا كان عمر بن الخطاب وعياض بن غنم رضي الله عنهما وجدا تعذيب الذمّي على تأخّره في دفع الجزية منطبقا على نهي النبي ﷺ عن تعذيب الناس وإنذاره وأنكراه. وإذا كان الإمام أبو يوسف يقول إنه لا يجوز بناء على ذلك ضرب الذمي وإحداث أي مكروه في بدنه في استيدائه الجزية. فمن باب أولى أن يكون ضربه وتعذيبه وإهانته وهو مقبل على دفعها منكرا غير جائز بل موضعا لإنكار أشد. وهو مما يقوي قول الإمام النووي رحمه الله ويدل على التسامي الإسلامي.
ومن تمام هذا التسامي الحديث الذي رواه أبو يوسف عن النبي ﷺ وجاء فيه: «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه». والرواية التي رواها عن عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة حيث قال: «أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم» «١». وهذا يعني أن خلفاء رسول الله وكبار أصحابه الذين كانوا الأكثر اتصالا به والأفهم لمنهجه ولمدى التلقين القرآني قد فهموا أن الجزية تعني قبول دخول معطيها في ذمة المسلمين وسلطانهم وأن على المسلمين وسلطانهم الدفاع عنهم وضمان سلامتهم وحريتهم الدينية وغير الدينية ومنع الأذى عنهم. ولقد حدث حادث رائع عظيم المغزى دلّ على أن أصحاب رسول الله كانوا على هذا الهدى السامي حيث روى الإمام أبو يوسف أن أهل الذمة لما رأوا وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم. وقد بعثوا رجالا من قبلهم يتحسسون أخبار الروم فرجعوا يخبرون أهل مدنهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله فأتى رؤساء المدن الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم- وكان ذلك في بلاد الشام- فأخبروه فكتب وإلي كل مدينة إلى أبي عبيدة بذلك.
وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال يأمرهم أن يردوا على أهل مدنهم ما جبي منهم من جزية وخراج وأن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر الآن على ذلك. ونحن لكم على الشرط وما
كتبناه بيننا إن نصرنا الله عليهم. فلما فعلوا قال أهل المدن ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئا «١». وينبغي أن لا يشك في صحة هذه الرواية إجمالا. فإنها لم تسق للدفاع عن المسلمين في ذلك الوقت الذي لم يكن للدفاع محلّ. والإمام أبو يوسف كتب كتابه قبل نهاية القرن الهجري الثاني وهو من أقدم الكتب التي وصلت إلينا إن لم يكن أقدمها.
ولقد أوّل ابن كثير جملة عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ بقوله: أي ذليلون حقيرون مهانون. وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اشترط عليهم بناء على ذلك تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم حيث روى رواية عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: «كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من رأينا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشّا للمسلمين ولا نعلّم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا.
ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زيّنا حيثما كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا. وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلّا ضربا خفيفا. وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا. ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم». قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه «ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حلّ لكم منّا ما يحلّ من أهل المعاندة والشقاق». وتأويل ابن كثير رحمه الله للجملة بعيد عن روح الأحاديث المروية. والكتاب الذي يورده ويقول إن الأئمة الحفاظ قد رووه والذي كتبه نصارى مدينة لم يذكر اسمها عجيب غريب في بدايته ونهايته وفحواه وأسلوبه. فهو من حيث الأصل بعيد عن روح الأحاديث المروية. وليس هناك أي سبب محتمل لكتابة أهل المدينة النصرانية لهذا الكتاب إذا كان هناك عهد سابق بينهم وبين عمر.
ولم يرو التاريخ أن عمر شهد فتح وتسليم مدينة ما غير مدينة بيت المقدس.
وعبارة العهد الذي روي أنه كتبه لأهلها وفحواه مناقضان مناقضة صارخة لعبارة هذا الكتاب وفحواه كما ترى فيما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها. ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من
أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم.
ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة» «١». وكلمات (ما كان للمسلمين من خطط- أي أحياء وحارات. وأسواق المسلمين ومنازلهم) قرائن لا تدحض على افتعال الكتاب لأنه لم يكن للمسلمين قبل الفتح خطط وأسواق ومنازل. وما كان يمكن أن يفرض ذلك سلفا لأن حركة الفتح لم تكن انتهت ولم تكن احتمالات الانتكاس والانتقاض مستحيلة. ولم يكن يعرف ما هو تصرف المسلمين بعد نهاية الفتح واستقراره. والغالب أن النصارى أظهروا في دور من أدوار الحكم الإسلامي مخامرة أو أقدموا على مغامرة كان لها وقع شديد وعميق في نفوس المسلمين وحكامهم فتشدد المسلمون معهم في المقابلة وألزموهم بما ذكره الكتاب ولعل بعضهم افتعله بسبيل ذلك. ولقد روت مصادر التاريخ الإسلامية والمسيحية القديمة «٢» أن الموارنة أو المردة والجراجمة ومن على مذهب الروم من النصارى «٣» ناصروا الروم حينما جاءت جيوش الفتح ثم استجابوا لتحريكاتهم في أثناء المنازعات التي نشبت بين الأمويين والهاشميين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى اغتناما لفرصة انشغال المسلمين بأنفسهم ثم ناصروا الصليبيين في حركتهم
(٢) انظر كتاب تاريخ الموازنة المفصل للمطران الدبس ص ٣٤ وما بعدها و ١٨٦ وما بعدها وفتوح البلدان للبلاذري ص ١٦٦ وما بعدها.
(٣) كان نصارى بلاد الشام ومصر والعراق على مذهبين مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح التي مداها أنه ليس إلها كاملا ولا إنسانا كاملا وأنه مزيج من الناسوتية واللاهوتية. ومذهب الطبيعة الثانية التي مؤداها أن المسيح إله كامل وإنسان كامل. وكان المذهب الأول مذهب غالبية أهل هذه البلاد والثاني مذهب الروم أصحاب السلطان.
في القرن الخامس ثم في القرنين السادس والسابع الهجريين. فلعلّ ذلك مما أثار حنق المسلمين عليهم وجعلهم يلزمونهم بما جاء في الكتاب. ومن الحق أن ننبه على أن في كتاب الخراج لأبي يوسف «١» أقوالا فيها تساوق مع بعض ما جاء في الكتاب من إلزام للذميين بزي خاص وهيئة خاصة عزوا إلى عمر بن الخطاب. غير أن هذا لا يجعلنا نغير موقفنا وتوقفنا بناء على ما شرحناه من دلائل قوية. وكل ما في الأمر هو أن تكون مواقف بعض الذميين التي أثارت المسلمين كانت مبكرة فكان ذلك مؤديا إلى ردّ فعل مبكر والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبري وغيره «٢» أقوالا عديدة عن أهل التأويل كذلك في صدد الذين تقبل منهم الجزية، حيث اعتبر بعضهم على ما يستفاد منها أن النص القرآني قاصر على أخذها من الكتابيين ومنع أخذها من غيرهم وقتاله إلى أن يتوب ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ولم يجز بعضهم أخذها من الكتابي العربي وجعله في زمرة الغير الذي لا يقبل منه إلا الإسلام وقصر أخذها على الكتابي الأعجمي. ومنهم من أجاز أخذها من المشركين والوثنيين الأعاجم دون العرب بالإضافة إلى جواز أخذها من الكتابيين العرب والعجم. ومنهم من أجاز أخذها من جميع الكفار سواء أكانوا كتابيين أم مشركين أو وثنيين وعربا أم عجما. والذين قصروا إباحة أخذها على الكتابيين أجازوها من المجوس لورود آثار نبوية في ذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب قال كيف نصنع بالمجوس فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله ﷺ يقول سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب وأشهد أنه أخذها من مجوس هجر وشهد آخرون أنه أخذها من مجوس البحرين أيضا «٣». وقد رووا رواية عن علي بن أبي طالب فيها تعليل للحديث النبوي ومفادها أنهم كانوا أهل
(٢) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(٣) روى هذا الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج ص ٧٣- ٧٥ ورواه الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال ص ٣١، ٣٢. وانظر التاج ج ٤ ص ٣٤٧ أيضا فإن فيه حديثا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر وحديثا رواه الترمذي أنه أخذها من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من بني فارس وأن عثمان أخذها من الفرس أو البربر.
كتاب. وقد أوردنا نصّ هذه الرواية في سياق تفسير الآية [٥] من سورة المائدة.
والقول بعدم أخذ الجزية من كتابيي العرب ينقضه ما هو مروي بطرق وثيقة من أخذ النبي ﷺ الجزية من نصارى نجران على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. والذي يتبادر لنا إلى هذا أن الأمر بقتال أهل الكتاب الموصوفين حتى يعطوا الجزية لا يعني حصر ذلك فيهم وأنه إنما جاء في سياق استنفار المسلمين إلى قتالهم وأن الرأي الذي يقول بجواز أخذها من الكفار إطلاقا عربا كانوا أم عجما وكتابيين كانوا أم مشركين ووثنيين وهو قول الإمام مالك هو الأوجه. ولقد روي أن رسول الله ﷺ كتب إلى الحرب بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشريح بن عبد كلال أقيال ذي رعين ومعافر وهمدان في أنحاء اليمن يعرض عليهم الإسلام وإن أبوا فالجزية «١». وأنه كتب بمثل ذلك إلى أسد عمان من أهل البحرين «٢» وهؤلاء لم يكونوا أهل كتاب. وقد روي أنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بأن يأخذ من كل حالم من المعافر دينارا أو عدله «٣». وهذا جزية أيضا. وهؤلاء عرب. ولم يرو أحد أنهم كتابيون. وفي حديث بريدة الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الكافرون إجازة نبوية بأخذ الجزية من أعداء المسلمين المشركين إذا أبوا الإسلام «٤» وفي كل هذا دليل على صحة هذا القول ووجاهته.
ولقد اختلفت الروايات والأقوال في مقدار الجزية ومن يجب عليهم دفعها من أهلها. وليس هناك نصوص نبويّة وراشدية صريحة باتّة في ذلك. وإنما هناك روايات عمّا فرضه النبي ﷺ حيث روي أنه فرض دينارا على كلّ حالم من المعافر «٥» وفرض على نصارى نجران ألفي حلّة في السنة «٦» وفرض على أهل جربا
(٢) المصدر نفسه.
(٣) كتاب الأموال ص ٢٦.
(٤) انظر الحديث في التاج ج ٤ ص ٣٢٧.
(٥) كتاب الأموال ص ٢٦. [.....]
(٦) ابن سعد ج ٢ ص ١٢٠.
وأذرح مائة دينار في السنة «١». وفرض على أهل مقنا ربع غزو لهم وربع ثمارهم «٢».
ولقد روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق (الفضة) أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي أن عمر بعث عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة فوضعوا على كل رجل أربعة وعشرين درهما فأجاز عمر ذلك. وفي رواية أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما. وأربعة وعشرين درهما. واثني عشر درهما. وقد روى الإمام نفسه أن ابن نجيح سأل مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع النبي على أهل اليمن؟ فقال: لليسار «٣». حيث يبدو من هذا أن النبي ﷺ وخلفاءه الراشدين كانوا يقدرون الجزية حسب حالة الناس المفروضة عليهم وطاقتهم. وقد روى الإمام أبو عبيد أن خلفاء المسلمين كانوا لا يرون الزيادة على ما وظف عمر بن الخطاب بل وكانوا يرون النقصان في ذلك إذا عجزوا عن الوظيفة. وفضلا عن ذلك فقد كانوا يعفون النساء والصبيان إطلاقا والعميان والزمنى والمقعدين والرهبان إذا لم يكن لهم مال. وكان الخلفاء يأمرون بالرفق بأصحابها وعدم الإصرار على أخذها منهم ذهبا وفضة ويأخذها بدلا من غلة الأرض والماشية وصناعة اليد على ما رواه الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد «٤». بل كانوا يسقطونها عن العاجز عن أدائها ويرتبون لهؤلاء إذا طعنوا في السنّ مرتبات من بيت المال حيث روى الإمام أبو يوسف خبرا رائعا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء فيه أن عمر بن الخطاب مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل وهو شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي قال فما ألجأك إلى ما أرى قال أسأل الجزية والحاجة والسنّ، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى
(٢) المصدر نفسه ص ٤١.
(٣) انظر هذه الأحاديث في كتاب الأموال ٣٩- ٤١ وانظر التاج ج ٤ ص ٣٤٧.
(٤) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص ٧٠- ٧٢ وكتاب الأموال لأبي عبيد ص ٣٦- ٤٧.
منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين وهذا من المساكين ووضع عنه الجزية وعن ضربائه «١». وحيث روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى واليه بالبصرة أن لا يأخذ الجزية إلّا ممن أطاق حملها وأن يجري على من كبرت سنّه وضعفت قوته وولّت عنه المكاسب من أهل الذمة من بيت المال ما يصلحه لأنه بلغه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد فعل ذلك «٢». ومما ورد في موطأ مالك «٣» قوله «مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم ولا تؤخذ إلّا من الذين بلغوا الحلم. وليس على نخلهم وكرومهم ومواشيهم صدقة (أي زكاة) لأن الصدقة قد وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردّا على فقرائهم. وليس على أهل الكتاب سوى الجزية. إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين فيؤخذ منهم العشر فيما يدبرون من تجارات. ويعامل المجوس معاملتهم». والشاهد في هذا الكلام السنة التي استثنت النساء والصبيان من الجزية. مما هو متساوق مع المقتبسات السابقة. وفي كل هذا ما فيه من العدل والتسامح الإسلامي.
ولقد رويت سنن راشدية «٤» بالنهي عن إعنات دافعي الجزية وعدم التشدد في أخذها ذهبا وفضة وجواز أخذ عدلها سلعة ما من غلّة أو صنعة يد. وهذا متساوق مع ذلك العدل والتسامح.
ويلحظ أن القرآن لم يذكر مصارف الجزية. وقد تكون الحكمة في ذلك أن الآية لم ترد في معرض التشريع لمورد قد تحقق كما هو الشأن في الغنائم والفيء والزكاة. والجزية من حقّ بيت مال المسلمين. ولقد ذكرت مصارف حصة بيت المال من الغنائم والفيء في آيات سورة الأنفال [٤١] وسورة الحشر [٧] وهذه
(٢) كتاب الخراج لأبي يوسف ص ٧٢ وكتاب الأموال لأبي عبيد ص ٤٥.
(٣) الموطأ ج ١ ص ١٥٢ و ١٥٣.
(٤) كتاب الأموال ٤٣- ٤٦ والخراج ٦٨ وما بعدها.
الحصة توزع على مجموعتين وهما المصالح العامة والمحتاجون. ومصارف الزكاة أيضا مثل ذلك على ما سوف يأتي شرحه في سياق الآية [٦٠] من هذه السورة.
ويسوغ القول قياسا على ذلك أن مورد الجزية يصرف بدوره على المجموعتين.
والله أعلم. ولقد عدّ الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الجزية من الفيء «١». وفي هذا تأييد لما نقول.
والمتبادر أن تقرير مبدأ الصلح مع المحاربين الكفار على الجزية قد انطوى على تبرير غاية الجهاد الإسلامي وهي إخضاع المحارب وخضد شوكته حتى لا يكون قادرا على الإخلال بأمن المسلمين ومصالحهم وحريتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها. ونصّ الآية الأولى يلهم بقوة أنه ليس للسلطان الإسلامي أن يمتنع عن المصالحة على الجزية في حالة قهر المحارب وخضوعه واستسلامه وإعلان رغبته في الصلح واستعداده لأداء الجزية. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة أيضا.
فالقتال شرّع لدفع العدوان والمقابلة من جهة وتأمين حرية الدعوة وأمن المسلمين ومصلحتهم وكرامتهم واحترام دينهم من جهة أخرى. فإذا ما أعلن المحارب خضوعه للسلطان الإسلامي وأصبح المسلمون في أمن على حريتهم ومصلحتهم وحرية الدعوة إلى دينهم واحترام دينهم دون أي عثرة ومناقضة فيكون المقصد قد حصل ولم يبق ما يسوغ تجاوزه. وآيات الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) صريحة في ذلك على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
ولقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حديثا عن النبي ﷺ جاء فيه «إنّكم لعلّكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح. فلا تأخذوا منهم فوق ذلك فإنّه لا يحلّ لكم» «٢» حيث يفيد أن إجابة المسلمين لطلب الصلح من المحارب على الجزية أمر واجب وطبيعي فضلا عن ما
(٢) المصدر نفسه ص ١٤٣.
يفيده الحديث من حظر الطمع في أموالهم وابتزاز شيء منها فوق ما صالحوا عليه.
ومن باب أولى أن يقال إن العدو إذا جنح للسلم بدون حرب على شرط الخضوع وأداء الجزية وجب مقابلته بالجنوح إليها. وقد صالح النبي ﷺ طوائف عديدة على الجزية بدون حرب حينما طلبوا ذلك، منهم نصارى نجران والمعافر وأكيدر دومة ويهود فدك وتيما والجربا ويوحنه بن رؤبة ملك أيلة ويهود بني جنبه والغريض وبني عاديا والمقنا وأذرح «١».
وقد يرد سؤال وهو هل يصح لولي أمر المسلمين أن يعقد صلحا مع عدو غير مسلم أو غير كتابي بدون جزية؟ فجوابا على هذا السؤال نقول: إن النبي ﷺ عقد صلحا بدون جزية مع أعداء محاربين وهو صلح الحديبية مع قريش. وفي آيات الأنفال [٦١، ٦٢] إجازة بالجنوح إلى السلم إذا جنح لها العدو. وليس هناك قرينة على أن ذلك كان منوطا بالجزية. وقد يصح أن يقال إن الآية [٢٩] التي نحن في صددها قد نزلت بعد ذلك. وإن المعقول أن يكون الأخير ناسخا أو معدلا للأول. غير أن المتبادر لنا أن روح آيات الأنفال وفحواها وسياقها تلهم أنها تشريع مستمر التلقين لاتساقه مع ظروف الحياة وطبائع الأمور. فهناك احتمالات دائمة لقيام ظروف لا تسمح للمسلمين بالاستمرار في قتال عدوهم إلى أن يخضع ويعطي الجزية. فمن الحقّ أن يستلهم ولي أمر المسلمين هذه الآيات في مثل هذه الظروف فيقابل جنوح العدو إلى السلم بالمثل ولو كان بدون جزية.
والله تعالى أعلم.
ومع أن اعتقاد اليهود ببنوة العزير غير شائع الآن فإن نصّ الآية الثانية أي [٣٠] يدل دلالة قاطعة على أن اليهود أو بعضهم في عهد النبي ﷺ كانوا يقولون بذلك. ولقد روى الطبري روايتين في ذلك. واحدة تذكر أن يهوديا اسمه فنحاص قال ذلك في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرى تذكر أن جماعة من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم
كيف تريد أن نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزرا ابن الله. ثم روى الطبري عن ابن عباس رواية تذكر أن اليهود لما أهملوا أوامر الله وشرائعه نسخ التوراة من صدورهم ورفع التابوت من بينهم. وكان عزرا حبرا صالحا فصلّى وابتهل إلى الله حتى استجاب إليه وأعاد إلى صدره التوراة فبشر بذلك قومه وأخذ يمليها عليهم ثم أعاد الله التابوت. فقالوا ما فعل الله له هذا إلّا لأنه ابنه. وروى الطبري رواية أخرى عن السدي مختلفة عن رواية ابن عباس في التفصيل متفقة في الجوهر. وبين أسفار العهد القديم سفر باسم سفر عزرا ليس فيه شيء من ذلك وإنما نعت عزرا فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الربّ. وكان يعمل ويعلم في إسرائيل بالرسوم والأحكام. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الروايات المروية عن ابن عباس والسدي مصدرها يهود المدينة وأنها كانت في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. كما أن مما لا شك فيه أن قول اليهود كان يمثل واقعا مسموعا. وحكاية القرآن شاهد حاسم على ذلك.
وفي صدد جملة يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ روى الطبري عن أهل التأويل روايات عديدة. منها أنها للنصارى فقط. وفي مقام تقرير كونهم في قولهم إن المسيح ابن الله يشبهون اليهود الذين كفروا قبلهم وقالوا العزير ابن الله. ومنها أنها لليهود والنصارى معا في مقام تقرير كونهم في قولهم إن العزير ابن الله والمسيح ابن الله يشبهون الكفار من العرب وغيرهم الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ويستشفون بهم لديه. ولو كان سند وثيق لكون عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله سابقة لعقيدتي اليهود والنصارى ببنوة العزير والمسيح لكان هذا وجيها. إلا أن يقال إن الجملة قد تعني ظروف نزولها حيث كان اليهود والنصارى في عصر النبي ﷺ يقولون ذلك استمرارا للسابق. على أن اعتقاد الأمم التي كانت أقدم من عهود اليهودية والنصرانية بأنه كان للآلهة زوجات وأولاد من الحقائق التاريخية المعروفة حيث ثبت من الآثار المنقوشة أن أهل اليمن والعراق والشام ومصر واليونان القدماء كانوا يعتقدون بذلك. ونعتقد أن ذلك مما كان معروفا في عصر النبي وبيئته. والراجح أن مصدر ذلك اليهود والنصارى والله أعلم.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حديثا عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة فقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فقلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم» «١». وروى الطبري إلى هذا أقوالا معزوة إلى حذيفة وأبي البختري وابن عباس من هذا الباب أيضا. وعلى كل حال فإن الفقرة تتضمن تقريرا لواقع مشاهد بكون عامة اليهود والنصارى في عهد النبي ﷺ استمرارا لما قبله قد خضعوا لتأثير وسلطان أحبارهم ورهبانهم حتى صاروا كأنما هم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يحرّمون ما يحرّمون ويحلّلون ما يحلّلون ويفعلون ما يأمرون به ولو كان مخالفا للشرائع المسجلة في كتبهم والمبلّغة عن أنبيائهم.
والآية [٣٣] وإن كانت تضمنت حكاية لمواقف اليهود والنصارى عامة من رسالة النبي محمد ﷺ بسبيل إطفاء نور الله الذي جاء به بأفواههم فإن في الفقرة الأولى من الآية [٣٤] أي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ما يمكن أن يفيد أن تلك المواقف إنما كانت بتأثير الأحبار والرهبان على عامة بني ملتهم. وفي ذلك صورة من صور اتخاذ عامة اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله إلّا من استطاع أن يفلت من هذا التأثير ويهتدي بهدي الله وينضوي إلى دعوة رسوله.
وقد تكون جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مفسّرة لمواقف الأحبار والرهبان المناوئة للدعوة الإسلامية والصادرة لعامة اليهود والنصارى عن الانضواء إلى الإسلام حيث كانوا يستولون من بني ملتهم على أموال كثيرة بأساليب باطلة غير مشروعة وقد يكون ذلك بصورة رشاوى على تحليل الحرام وتحريم الحلال وبصورة نذور للأديرة والكنائس لا يلبثون أن يستحلوها لأنفسهم فكانوا يخشون ضياع هذه الموارد فضلا عن فقد ما كان لهم من جاه ونفوذ عظيمين. ولقد روى ابن هشام «١» عن ابن إسحق رواية لها مغزى قوي مؤيد لما نقول مفادها أن وفد نصارى نجران لما قدم على رسول الله واستمعوا له قال أسقفهم أبو حارثة لأخيه: والله إنه للنبي الذي كنّا ننتظر، فقال له أخوه وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرّفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منّا كل ما ترى.
ولقد كانت النصرانية سائدة في بلاد الشام والعراق ومصر فأخذ عامة النصارى يقبلون على الإسلام حتى شمل أكثريتهم الساحقة. وقد شاء بعضهم الاحتفاظ بدينه فكان له ما شاء. وظل هؤلاء منثورين أسرا منفردة وسط كتل إسلامية كثيفة في ظل سلطان المسلمين القوي. والذي نعتقده أن كثيرا من هؤلاء إن لم يكن أكثرهم هم من الرهبان والقسيسين الذين كانت الأديرة والكنائس وأملاكها وإيرادها مأكلة لهم فكان ذلك مما جعلهم يشذون عن الأكثرية الساحقة.
وفي جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في حدّ ذاتها توكيد للنهي المتكرر في سور سابقة عن أكل الناس أموال بعضهم بالباطل وعن الصدّ عن سبيل الله وتعطيل شرائعه والتمرد على رسالاته كمبدأ من مبادئ الرسالة الإسلامية. وتوكيد للتنديد والإنذار اللذين انطويا في الآيات التي احتوت ذلك مما فيه توكيد للتلقين القرآني المستمر في هذا الأمر. وفي نسبة ذلك إلى الأحبار والرهبان بخاصة تشديد للتلقين من حيث كون صدور ذلك من رجال الدين ورؤساء الملّة الذين يجب أن يكونوا قدوة في الصلاح والتقوى أشد جرما وإثما عند الله تعالى.
والآيتان [٣٢ و ٣٣] قد وردتا بأسلوب مقارب لما ورد في سورة الصف في سياق آيات ذكر السامعون فيها بمواقف اليهود الإزعاجية والمؤذية من موسى وعيسى عليهما السلام مع فارق واحد هو أن ذلك التذكير كان للعرب والتنديد كان بهم على الراجح في حين أنهما هنا في صدد الكتابيين مباشرة. وواضح أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارهما لمرة الثانية لبيان سوء مقاصد ونوايا ومواقف الكتابيين.
والتنديد بهم والردّ عليهم بأن الله محبط لمكائدهم وبأنه يأبى إلّا أن يتم نوره ولو كرهوا. وبالطبع إنهما في حدّ ذاتهما قد احتوتا ذلك المعنى القوي الرائع الذي نوهنا به في تفسير سورة الصف بعموم الدين الإسلامي والتطمين الذي يبعث الثقة التامة في نفوس المسلمين بأن دينهم الذي ارتضاه الله لهم سيكون هو الدين الظاهر على سائر الأديان. فهو نور الله الذي لن يقدر أحد على إطفائه مهما حاول ومهما ظنّ نفسه قادرا على ذلك. وهو دين الحق الذي وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه. ولو كره المشركون والكافرون. وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بالآيتين لتكونا توكيدا حاسما وجديدا لوعد الله عزّ وجلّ في أواخر حياة الرسول وأواخر ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من القرآن. ولن يخلف الله وعده.
ولقد شرحنا مدى الآيتين في سياق تفسير سورة الصف. فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة.
تعليق خاص على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ والآية التالية لها وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث وأقوال وما انطوى في ذلك من صور وتلقين وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية قد يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة.
وصدّهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى.
على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كلّ من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا.
ولقد روى المفسرون «١» أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي إباحة اكتناز المال وذمّه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «ما بلغ أن تؤدّى زكاته فزكّي فليس بكنز وفي رواية ما أدّي زكاته فليس بكنز» «٢». وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه: «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» «٣». وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قلّ وأن كلّ مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن
(٢) التاج ج ٢ ص ٦.
(٣) تفسير القاسمي.
النبي ﷺ حديث جاء فيه نعم المال الصالح للعبد الصالح. وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله وقال له إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم. فكبّر عمر. فقال له رسول الله ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته. وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته».
فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق على سبيل الله.
ولقد روى المفسرون «١» في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه- أي شدقيه- ثم يقول أنا مالك. أنا كنزك» «٢». ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره. كلّ ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار.
قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا
(٢) روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٧.
إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم. قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلّ ما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» «١». حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله ﷺ يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بدّ منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة.
وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحدّ الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للذهب، تبّا للفضة ثلاث مرات. فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا فأي مال نتخذ فقال عمر أنا أعلم لكم ذلك ثم أتى رسول الله فقال يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم. قالوا أي المال نتخذ فقال رسول الله:
لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه» «٢».
والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن المذموم هو نوع المال أي
(٢) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة «لما نزلت الآية قال بعض أصحاب رسول الله يا رسول الله أنزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» انظر التاج ج ٤ ص ١١٦.
عين الذهب والفضة لا جنس المال فكان جواب رسول الله ﷺ منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ من ترك بعده كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول ويلك ما أنت؟ فيقول أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» «١». وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه:
«قال رسول الله ﷺ الق الله فقيرا ولا تلقه غنيّا. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال هو ذاك وإلّا فالنار». وروي عن قتادة «أنّ رجلا من أهل الصفّة مات فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيّتان».
وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذمّ المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي ﷺ قال: «إنّ لكلّ أمة فتنة وفتنة أمتي المال» «٢» وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبيّ قال:
«لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» «٣». وحديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبيّ ﷺ قال: «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» «٤». وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرّف عن أبيه قال: «انتهى إلى النبيّ ﷺ وهو يقول ألهاكم التكاثر.
قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت» «٥». وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(٢) التاج ج ٥ ص ١٤٧- ١٥٩.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
قال: «أما إن كلّ بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا، إلّا ما لا، يعني ما لا بدّ منه» «١». وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة. إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» «٢».
وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله» «٣». وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ قال: «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة لم يا رسول الله؟ قال إنّهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» «٤». وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله قال: «يا عائشة إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب. وإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه» «٥». وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي ﷺ قال: «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» «٦». وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبيّ ﷺ قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» «٧». وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامه عن النبيّ ﷺ قال: «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ. ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربّه، وأطاعه في السرّ، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده فقال عجّلت منيّته. قلّت بواكيه قلّ تراثه» «٨». وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبيّ ﷺ قال: «إنّ هذا المال
(٢) المصدر نفسه. [.....]
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
(٧) المصدر نفسه.
(٨) المصدر نفسه.
حلو من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «١». وحديث رواه البغوي عن أبي ذرّ قال: «انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو جالس في ظلّ الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم فقال الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم». وروي عن أبي ذرّ أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة. ولقد روي عن زيد بن وهب قال: «مررت على أبي ذرّ بالربذة- وهي قرية من قرى المدينة- فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنّا بالشام فقرأت: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ... فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلّا في أهل الكتاب. فقلت إنها لفينا وفيهم فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنحّ قريبا قلت والله لن أدع ما كنت أقول» «٢». ويروي الطبري في تاريخه بعض مواقف أبي ذرّ من هذا الباب
(٢) روى هذا الطبري وروى البخاري شطرا من هذا الحديث وهو هذا عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... الآية قال معاوية ما هذه فينا ما هي إلا في أهل الكتاب قلت إنها لفينا وفيهم. وقال ابن عمر هذا قبل الزكاة. فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال) التاج ج ٤ ص ١١٦ ونقول استطرادا إن كلام ابن عمر يوهم أن الزكاة فرضت بعد هذه الآية. وهناك من قال إن آية الزكاة نسخت هذه الآية وإن الزكاة فرضت في السنة التاسعة.
وقال القاسمي الذي أورد هذا إن ابن كثير جزم بذلك في تاريخه. وإن بعضهم قواه بسبب كون آية الصدقات في هذه السورة قد نزلت بعد هذه الآية. والمقصود من آية الزكاة وآية الصدقات هو هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠).
وهذا القول غريب من نواح عديدة. فالزكاة ذكرت في سور مكيّة مبكرة ثم ظلت تذكر متلازمة مع الصلاة في السور المكيّة ثم في السور المدنيّة بأسلوب يفيد بكل قوة أنها كانت مفروضة وممارسة في العهد المكي. وهناك آيات مكيّة قوية الدلالة على أن مقدارها كان معينا وكان المسلمون يؤدونه مثل آيات سورة المعارج هذه وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وآية الصدقات أو الزكاة المذكورة ليست في صدد فرض الزكاة وإنما هي في صدد ذكر المصارف التي تصرف فيها. بل إن أسلوبها لا يدل على أن هذه المصارف تعين تعيينا جديدا. وإنما هو في صدد تقرير ذلك كأنما هو المعروف الذي يجب أن يوقف عنده. والرقاب ورد ذكرها في معرض ما يجب الإنفاق عليه في آية سورة البقرة [١٧٧] وليس في القرآن والحديث ما يفيد أن الزكاة فرضت في العهد المدني فضلا عن أواخره. ونحن نجل ابن عمر رضي الله عنه عن أن يجهل ذلك. ولذلك فإما أن يكون كلامه نقل محرفا أو أن المقصود منه هو أن الآية في حق الذين لم يؤتوا الزكاة، وأن الزكاة جعلت طهرا للأموال. وهذا هو ما جاء في الحديث النبوي المروي سابقا والله أعلم.
ويقول إن الفقراء ولعوا بما كان أبو ذر يقوله وصاروا يوجبونه على الأغنياء، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس فكان ذلك مما جعل عثمان يستدعي أبا ذرّ مع الرفق به. ومما رواه أن عثمان قال لأبي ذرّ ما لأهل الشام يشكون منك؟ فقال لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا فقال عثمان عليّ أن أقضي ما عليّ وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد ولا أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد «١».
وقد عقب المفسّر ابن كثير على حديث أبي ذرّ بقوله: «كان من مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين وأن يأخذه إليه فاستقدمه وأنزله بالربذة. ومما رواه هذا المفسر أن معاوية أراد أن يختبره فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يوميه ثم بعث الذي أتاه بها ليقول له إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال له ويحك إنها خرجت. ولكن إذا جاء ما لي حاسبناك به.
ولقد عقب الطبري على هذه الأحاديث والأقوال قائلا وأولى الأقوال بالصحة هو أن كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز يحرّم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب وإن قلّ إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وعقب
البغوي قائلا إن القول الأول هو الأصح لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال. وقد علّق النيسابوري والزمخشري والخازن والنسفي والطبري تعليقات مماثلة أيضا. وقد يكون هذا هو المتسق مع طبائع النفوس والأمور. فليس من ذلك أن يطلب من كل الناس أن لا يحتازوا مالا أو أن ينفقوا ما يحتازونه دون أن يدخروه أو ينفقوا معظمه. وكل ما يتسق مع ذلك هو أن يطلب منهم أداء ما فرضه الله عليهم من حقّ. وقد يكون الهدي النبوي في الأحاديث التي ذكر فيها «أن المال الذي يؤدي زكاته ليس كنزا. وأن نعم المال الصالح للعبد الصالح. وأن الله إنما فرض الزكاة ليطيّب بها ما بقي عند الناس من أموال. وأن المال الذي يفعل به الخير نعم المعونة هو» هو الاتساق مع طبائع الأمور والنفوس في شأن ليس محرما تحريما باتا. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الهدي القرآني لا يمنع المسلمين من الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق إذا ما راعوا الاعتدال والقصد لأن ذلك هو المتسق مع تلك الطبائع. غير أن قوة الزجر في الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث العديدة الأخرى التي لا نرى تناقضا بينها وبين هذا الاتساق الذي يراعيه هدي القرآن والنبي معا تسوغ القول أنها تنطوي في الوقت نفسه على تلقين قوي بشجب اكتناز المال والتكالب عليه وحبسه عن سبيل الله ومصالح المسلمين ومحتاجيهم وعمل الخير حتى ولو كان ما احتازوه بطرق مشروعة ولو أدوا القدر الزهيد المفروض عليها زكاة. ومن الجدير بالذكر والتأمل:
أولا: إن القليلين من الأغنياء هم الذين يؤدون الزكاة بحقها. أما الأكثر فإما أنهم لا يؤدونها بالمرة وإما أنهم يؤدون قدرا أقل من المستحق عليهم. ومعنى هذا أن أكثر الأغنياء هم موضوع الإنذار الرهيب الذي تضمنته الآيات من جهة. وقد فقدوا التكأة التي تجعل حيازتهم للكنوز سائغة على ضوء بعض الأحاديث من جهة أخرى ونعني بها إعطاء الزكاة كاملة عنها.
وثانيا: إن كثرة الثروة في أيدي الأفراد مؤدية في الأعمّ الأغلب كما هو مشهود دائما في أيامنا بنوع خاص إلى التبذير والإسراف والفسق والفجور والبغي
والاستعلاء على الفقراء المحرومين وهو المستنكر المندد به والمنهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة على ما نبهنا عليه، أوردنا نصوصه في سور سبق تفسيرها مما يجعل التلقين القرآني واللغوي أشدّ لزاما واستحكاما.
وثالثا: إن سبيل الله الذي أنذرت الآيات الذين لا ينفقون أموالهم فيها ذلك الإنذار الرهيب هي الدعوة الإسلامية نفسها التي من نطاقها نشر الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وحماية الإسلام والمسلمين من البغي والعدوان. وتوفير الكرامة والعزة والحرية لهما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل. وكل هذا من مهام السلطان وأولي أمر المسلمين.
وبناء على ذلك كلّه يسوغ القول إن لأولياء أمر المسلمين أن يعالجوا أمر استقطاب الثروة في جانب واستقطاب الفقر والعوز في جانب وتعديل الفروق بأساليب متنوعة تضمن منع الأفراد عن التبذير والسّفه والاستعلاء مع عدم الإجحاف بحق الحيازة المعتدلة وحاجات الحياة المشروعة من جهة وسدّ حاجة سبيل الله ووجوه الخير ومساعدة المحتاجين من جهة أخرى. ولعلّ الفاروق رضي الله عنه حينما قال كلمته المشهورة «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وفرقتها على الفقراء» «١» كان يستوحي من هذا التلقين القرآني والنبوي. والله تعالى أعلم.
ومن الجدير بالذكر أن آيات التوبة التي نحن في صددها ليست هي الوحيدة في بابها. فإن الآيات التي تندد بحبّ المال حبّا جمّا والتكاثر فيه والبخل به عن سبيل الله والمحتاجين وبالذين ينهجون هذا المنهج وتنذرهم قد تكررت كثيرا في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وكل ما في الأمر أن أسلوب آيات التوبة قد جاء على أشدّ ما يكون زجرا وإنذارا حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في أواخر ما نزل من القرآن ليظلّ شديدا على الأسماع والأذهان والله أعلم.