آيات من القرآن الكريم

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ كَلَّفَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحَمُّلِهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؟
قُلْنَا: قَدْ ضَرَبْنَا لِهَذَا الْمَعْنَى مَثَلَ الطَّبِيبِ الْحَاذِقِ وَالْأَبِ الْمُشْفِقِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِيَتَخَلَّصُوا مِنَ الْعِقَابِ الْمُؤَبَّدِ، وَيَفُوزُوا بِالثَّوَابِ الْمُؤَبَّدِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لَمَّا قَالَ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فَهَذَا النَّسَقُ يُوجِبُ أَنْ يُقَالَ: رَؤُوفٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا النَّسَقَ وقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
الجواب: أن قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا رَأْفَةَ وَلَا رَحْمَةَ لَهُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَهَذَا كَالْمُتَمِّمِ لِقَدْرِ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّغْلِيظِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي وَإِنَّ بَالَغْتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي التَّغْلِيظِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ التغليظ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا رَحْمَتِي وَرَأْفَتِي فَمَخْصُوصَةٌ بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٩]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قِيلَ: تَوَلَّوْا أَيْ أَعْرَضُوا عَنْكَ. وَقِيلَ: تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: تَوَلَّوْا عَنْ قَبُولِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: تَوَلَّوْا عَنْ نُصْرَتِكَ فِي الْجِهَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ/ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَعْرَضُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا هَذِهِ التَّكَالِيفَ، لَمْ يَدْخُلْ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ حَزَنٌ وَلَا أَسَفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ فِي نَصْرِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَفِي إِيصَالِهِ إِلَى مَقَامَاتِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَإِذَا كَانَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَا مُبْدِئَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَلَا مُحْدِثَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ إِلَّا هُوَ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَمَرَنِي بِهَذَا التَّبْلِيغِ كَانَتِ النُّصْرَةُ عَلَيْهِ وَالْمَعُونَةُ مُرْتَقَبَةً مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالسَّبَبُ فِي تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْآثَارُ أَعْظَمَ وَأَكْرَمَ، كَانَ ظُهُورُ جَلَالَةِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ وَالْخَاطِرِ أَعْظَمَ، وَلَمَّا كان أعظم الأجسام هو العرض كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ تَعْظِيمَ جَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
فَإِنْ قَالُوا: الْعَرْشُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَلَا يُعْرَفُ وُجُودُهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ شَرْحِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟
قُلْنَا: وُجُودُ الْعَرْشِ أَمْرٌ مَشْهُورٌ وَالْكُفَّارُ سَمِعُوهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَرَأَ قَوْلَهُ: الْعَظِيمِ بِالرَّفْعِ لِيَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ، لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمِ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَأَيْضًا فَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلْعَرْشِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ عَظِيمًا كِبَرَ جُرْمِهِ وَعِظَمَ حَجْمِهِ وَاتِّسَاعَ جَوَانِبِهِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَظَمَةِ وُجُوبَ الْوُجُودِ وَالتَّقْدِيسَ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَكَمَالَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَكَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي الْأَوْهَامِ أَوْ تَصِلَ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ آخِرُ ما

صفحة رقم 179

أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا أُنْزِلَ بَعْدَهُمَا قُرْآنٌ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَحْدَثُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هَاتَانِ الْآيَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: آخِرُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨١].
وَنُقِلَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ تُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ سُورَةُ الْعَذَابِ مَا تركتم أحدا إلا نالت منه، والله ما تقرءون رُبْعَهَا.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ يَجِبُ تَكْذِيبُهَا، لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَطَرُّقِ الزِّيَادَةِ/ وَالنُّقْصَانِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ بَاطِلٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وَهَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ.
فَرَغَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْسِيرِهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحِبَهُ أَجْمَعِينَ.
تم الجزء السادس عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ السابع عشر، وأوله قوله تعالى:
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ. أَعَانَ اللَّهُ عَلَى إكماله

صفحة رقم 180
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية