
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا مآ أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (١٢٧)قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ قرأ حمزة: أولا تَرَوْنَ بالتاء، ويكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقرأ الباقون بالياء، يعني: أَوَلا يَرَوْنَ المنافقون ولا يعتبرون. أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ، يقول يبتلون بإظهار مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ النفاق في كل عام. مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ من نفاقهم وكفرهم في السر، وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ، يعني: لا يتعظون ولا يتفكرون. قال الكلبي: كانوا ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين، فيعاقبون ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ عن نقض العهد. وقال مقاتل: وذلك أنهم إذا خلوا، تكلموا بما لا يحل لهم، فإذا أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، أخبرهم بما تكلموا به، فيعرفون أنه نبي. ثم يأتيهم الشيطان فيحدثهم أنه يخبرهم بما بلغه عنهم، فيشكون فيه، فذلك قوله: يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، يعني: يعرفون مرة أنه نبي وينكرون مرة أُخرى ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ عن ذلك وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ فيما أخبرهم، ويقال:
يُفْتَنُونَ يعني: يبتلون بالأمراض والأسقام، ويعاهدون الله تعالى لو زال عنا لفعلنا كذا وكذا، ثم لا يوفون به، ولا يتوبون من النفاق وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: لا يتعظون بما أنزل الله عليهم.
قوله تعالى: وَإِذا مآ أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يعني: من القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل سورة براءة، فيها عيب المنافقين، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي: ويتغامزون ويقولون فيما بينهم:
هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا رآهم أحد قاموا وصلوا، وإن لم يرهم أحد انصرفوا. يعني: خرجوا من المسجد، ويقال: انصرفوا عن الإيمان. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان، وخذلهم عن الفهم بخروجهم وانصرافهم عن الإيمان، ويقال: هذا على وجه الدعاء واللعن، كقوله تعالى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التوبة: ٣٠] ويقال: هذا على معنى التقديم، ومعناه:
صرف الله قلوبهم، لأنهم انصرفوا عن الإيمان. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ أمر الله تعالى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، قال مقاتل: يعني: يا أهل مكة قَدْ جآءكم رسول من أنفسكم تعرفونه ولا تنكرونه. ويقال: هذا الخطاب لجميع العرب لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: من جميع العرب، لأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها قرابة. وهذا من المجاز والاستعارة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان فيهم ولم يجىء من موضع آخر، ولكن معناه: ظهر فيكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقال: هذا الخطاب لجميع صفحة رقم 100

الناس لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: آدمياً مثلكم. قرأ بعضهم مِنْ أَنْفُسِكُمْ بنصب الفاء يعني: من أشرفكم وأعزكم، وهي قراءة شاذة.
ثم قال تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ، يعني: شديد عليه ما أثمتم وعصيتم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، قال الكلبي: يعني: على إيمانكم وقال مقاتل: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالرشد والهدى.
وقال قتادة: حَرِيصٌ على من لم يسلم أن يسلم. ثم قال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، أي رفيق بجميع المؤمنين، رَّحِيمٌ بهم.
ثم قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: فَإِنْ تَوَلَّوْا، يعني: إن أعرضوا عنك ولم يؤمنوا بك، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يعني قل: كفاني الله وفوضت أمري إلى الله ووثقت به. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، يعني: لا ناصر ولا رازق ولا معين إِلاَّ هُوَ. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، يعني: به أثق وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، يعني: خالق السرير العظيم، الذي هو أعظم من السموات والأرض. وقرأ بعضهم الْعَظِيمِ بالرفع فجعل العظيم من نعت الله تعالى، وقراءة العامة الْعَظِيمِ بالخفض ويكون العظيم نعتاً للعرش.
وذكر عن عثمان بن عفان أنه لما جمع القرآن في المصحف، كان لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد بها رجلان، فجاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة، فلم يطلب منه البينة وأثبتها في المصحف. وروي عن حذيفة أنه قال: يسمون سورة براءة سورة التوبة، وهي سورة العذاب. عن ابن عباس أنه قال: كنا نسميها الفاضحة، فما زالت تنزل في المنافقين فيهم ومنهم، حتى أشفق كل واحد على نفسه. والله أعلم بالصواب.