وقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ذم لهم لإيثارهم الغي على الرشد، والضلالة على الهداية.
أى: صرف الله قلوبهم عن الهداية والرشاد، بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما فيه خيرهم ونفعهم. وإنما يفقهون ما فيه شقاؤهم وتعاستهم.
هذا، وإن الناظر في هذه الآيات الكريمة بتدبر وإمعان، ليراها قد صورت أحوال المنافقين وأخلاقهم وحركاتهم تصويرا دقيقا معجزا، حتى إنه ليخيل إلى القارئ لهذه الآيات الكريمة أو السامع لها، أنه يشاهد المنافقين مشاهدة حسية وهم على تلك الحالة من التحرك المريب والنظرات الخبيثة، والخروج من مجلس النبي ﷺ في حذر وريبة..
وهذا كله مما يشهد بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله العليم بخفايا الصدور، وبطوايا النفوس.
ثم ختم- سبحانه سورة التوبة، بآيتين كريمتين، اشتملتا على أسمى النعوت، وأكرم الصفات للرسول ﷺ فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
وجمهور المفسرين على أن الخطاب في قوله- سبحانه-: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ للعرب: فهو كقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.
أى: لقد جاءكم- يا معشر العرب- رسول كريم «من أنفسكم» أى: جنسكم، ومن نسبكم، فهو عربي مثلكم، فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإيمان بالنبي ﷺ وفي طاعته وتأييده، فإن شرفهم قد تم بشرفه، وعزهم بعزه، وفخرهم بفخره، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف وطهارة النسب، والأخلاق الحميدة.
قال القرطبي: قوله «من أنفسكم» يقتضى مدحا لنسب النبي ﷺ وأنه من صميم العرب وخالصها، وفي صحيح مسلم عن وائلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قرش بنى هاشم، واصطفاني من بنى هاشم» وعنه ﷺ أنه قال: «إنى من نكاح ولست من سفاح» «١».
وقال الزجاج إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم، ومعنى كونه ﷺ «من أنفسكم» أنه من جنس البشر.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح لأن الآية الكريمة ليست مسوقة لإثبات رسالته ﷺ وعمومها، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله- سبحانه- على العرب، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به، لأنه ليس غريبا عنهم، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم، والعقوبة لهم أعظم.
وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أى: شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم، لكونه بعضا منكم فهو يخاف عليكم سوء العاقبة، والوقوع في العذاب.
يقال: عزّ عليه الأمر أى صعب وشق عليه، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم: أكمة عنوت، إذا كانت شاقة مهلكة، والفعل عنت بوزن فرح.
وقوله: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أى: حريص على إيمانكم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
والحرص على الشيء معناه: شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه.
وقوله: «بالمؤمنين رءوف رحيم» أى: شديد الرأفة والرحمة بكم- أيها المؤمنون- والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع، فهو ﷺ يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين، وفي إزالة كل مكروه عنهم.
قال بعضهم: لم يجمع الله- تعالى- لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي ﷺ فإنه قال «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال عن ذاته- سبحانه- إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
«٢».
ثم انتقل- سبحانه- من خطاب المؤمنين إلى خطابه ﷺ فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ...
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٠٢.
أى: فإن أعرضوا عن الإيمان بك، وتركوا طاعتك، فلا تبتئس ولا تيأس، بل قل «حسبي الله» أى: هو كافينى ونصيرى «لا إله إلا هو» - سبحانه- «رب العرش العظيم» الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله- عز وجل-.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين بيان للصفات التي منحها- سبحانه- لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة له ﷺ إلى أن يفوض أمره إلى خالقه فهو- سبحانه- كافيه وناصره.
وبعد فهذه سورة التوبة.
السورة التي احتوت على بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع الإسلامى، والمجتمعات الأخرى.
السورة التي حرضت المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وساقت لهم من وسائل الترغيب في ذلك، ما يجعلهم يقدمون على قتال أعدائهم بصبر وثبات واستبشار.
السورة التي أوجبت على المؤمنين أن تكون محبتهم لله ولرسوله، ولإعلاء كلمة الحق، فوق محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال.
السورة التي ذكرت المؤمنين بنصر الله لهم في مواطن كثيرة، وحذرتهم من الغرور بأنفسهم.
والعجب بقوتهم، وأمرتهم بنصرة رسوله في السراء والضراء والعسر واليسر، والمنشط والمكره.
السورة التي أمرت المؤمنين بأن يخلصوا في دفاعهم عن دين الله وعن حرماته وعن مقدساته. وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك، فسوف يغنيهم الله من فضله.
السورة التي فضحت المنافقين، وكشفت عن أساليبهم الخبيثة، ومسالكهم القبيحة، وأقوالهم المنكرة، وأفعالهم الأثيمة، وسجلت عليهم الخزي والعار وحذرت المؤمنين من شرورهم...
السورة التي رسمت أسس التكافل الاجتماعى بين أفراد الأمة الإسلامية، عن طريق مشروعية الزكاة، ووجوب أدائها لمستحقيها.
السورة التي ساقت ألوانا من فضل الله على عباده المؤمنين، حيث تقبل سبحانه توبتهم، وغسل حوبتهم، وتجاوز عن خطئهم.
السورة التي صنفت المجتمع الإسلامى في أواخر العهد النبوي تصنيفا دقيقا.
فهناك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهناك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وهناك المرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
وهناك الأعراب المنافقون، وهناك الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة.
وقد بينت السورة الكريمة ما يستحقه كل قسم من الأقسام من ثواب أو عقاب.
السورة التي أوجبت على المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على أساس العقيدة الدينية لا على أساس القرابة الجسدية، فنهتهم أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.
هذا جانب من المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة ونسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا وأن يرزقنا الإخلاص والتوفيق في القول والعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد السيد طنطاوى
فهرس إجمالى لتفسير سورة الأنفال
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة المقدمة ٥ تمهيد بين يدي السورة ٧ ١ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ٢٣ ٢ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ٢٩ ٣ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ٣١ ٤ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ٣٢ ٥ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ٣٧ ٦ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ٣٩ ٧ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ٤٠ ٨ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ٤٢ ٩ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ٤٣ ١٠ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى ٤٨ ١١ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ ٤٨ ١٢ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ ٥٢ ١٣لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
٥٣ ١٤ ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ ٥٤ ١٥ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ٦٠ ١٦ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ٦١ ١٧ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ٦٤ ١٨ ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ٦٦ ١٩ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ٦٧ ٢٠ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ٦٩ ٢١ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا ٧٠ ٢٢ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ٧٠ ٢٣ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً ٧١ ٢٤ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ٧٢ ٢٥ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ٧٥ ٢٦ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ٧٨
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٢٧ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ ٨٠ ٢٨ وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
٨٢ ٢٩ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا ٨٣ ٣٠ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ٨٥ ٣١ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ٨٨ ٣٢ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ ٨٩ ٣٣ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ٩١ ٣٤ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ٩٢ ٣٥ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ٩٣ ٣٦ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ ٩٤ ٣٧ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ٩٦ ٣٨ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ ٩٦ ٣٩ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ٩٧ ٤٠ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا ٩٨ ٤١ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ٩٩ ٤٢ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ١٠٥ ٤٣ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ ١٠٨ ٤٤ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ ١١٠ ٤٥ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً ١١٢ ٤٦ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ١١٢ ٤٧ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا ١١٤ ٤٨ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ١١٦ ٤٩ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ١٢٢ ٥٠ وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ١٢٤ ٥١ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ١٢٥ ٥٢ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ١٢٧ ٥٣ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً ١٣٠ ٥٤ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ١٣١ ٥٥ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ١٣٢ ٥٦ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ١٣٤ ٥٧ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ١٣٥
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٥٨ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ١٣٦ ٥٩ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ١٣٧ ٦٠ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ١٣٨ ٦١ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ١٤٤ ٦٢ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ١٤٧ ٦٣ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ١٤٨ ٦٤ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ١٤٩ ٦٥ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ١٥١ ٦٦ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ١٥٢ ٦٧ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ ١٥٤ ٦٨ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ١٥٨ ٦٩ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ١٦٠ ٧٠ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ ١٦١ ٧١ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ ١٦٢ ٧٢ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ١٦٥ ٧٣ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ ١٦٨ ٧٤ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ١٦٩ ٧٥ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ ١٦٩
صفحة رقم 439
فهرس إجمالى لتفسير آيات سورة التوبة
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة/ مقدمة ١٧٦/ تمهيد بين يدي السورة ١٧٧ ١ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ١٩٤ ٢ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ١٩٧ ٣ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ٢٠١ ٤ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٢٠٣ ٥ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ٢٠٥ ٦ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ٢٠٨ ٧ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ٢١٢ ٨ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ٢١٤ ٩ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا ٢١٧ ١٠ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ ٢١٧ ١١ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ٢١٨ ١٣ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا ٢٢١ ١٤ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ٢٢٣ ١٥ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ٢٢٤ ١٦ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ٢٢٥ ١٧ ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ٢٢٦ ١٨ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ ٢٢٨ ١٩ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ٢٣١ ٢٠ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ٢٣٣ ٢١ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ٢٣٤ ٢٢ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ٢٣٤ ٢٣ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ٢٣٥ ٢٤ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ٢٣٦ ٢٥ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ٢٣٩ ٢٦ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ ٢٤٢ ٢٧ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ٢٤٢
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٢٨ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ٢٤٤ ٢٩ قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ٢٤٩ ٣٠ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ٢٥٦ ٣١ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ ٢٦١ ٣٢ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ٢٦٣ ٣٣ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ٢٦٥ ٣٤ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً ٢٦٧ ٣٥ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ٢٧٠ ٣٦ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ ٢٧٦ ٣٧ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ٢٨١ ٣٨ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا ٢٨٦ ٣٩ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً ٢٩٠ ٤٠ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ٢٩١ ٤١ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا ٢٩٥ ٤٢ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً ٢٩٩ ٤٣ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ٣٠١ ٤٤ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ٣٠٤ ٤٥ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ٣٠٥ ٤٦ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا ٣٠٦ ٤٧ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ ٣٠٨ ٤٨ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ٣١١ ٤٩ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ٣١٢ ٥٠ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ٣١٣ ٥١ قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا ٣١٤ ٥٢ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا ٣١٤ ٥٣ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ٣١٦ ٥٤ وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ٣١٧ ٥٥ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ٣١٨ ٥٦ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ٣٢٠ ٥٧ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ ٣٢١ ٥٨ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ٣٢٢
صفحة رقم 441رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٥٩ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ٣٢٤ ٦٠ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ٣٢٥ ٦١ ومنهم الذين يؤذون النبي ٣٣٢ ٦٢ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ٣٣٥ ٦٣ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ٣٣٧ ٦٤ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ ٣٣٨ ٦٥ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٣٤٠ ٦٦ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ ٣٤٠ ٦٧ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ ٣٤٣ ٦٨ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ٣٤٤ ٦٩ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا ٣٤٤ ٧٠ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ٣٤٧ ٧١ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ ٣٤٨ ٧٢ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ٣٥٠ ٧٣ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ٣٥١ ٧٤ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ٣٥٣ ٧٥ وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ٣٥٦ ٧٦ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ٣٥٨ ٧٧ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ٣٥٩ ٧٨ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ٣٥٩ ٧٩ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٣٦١ ٨٠ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ٣٦٣ ٨١ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ ٣٦٤ ٨٢ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ٣٦٧ ٨٣ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ ٣٦٨ ٨٤ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ٣٦٩ ٨٥ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ٣٧٢ ٨٦ وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا ٣٧٣ ٨٧ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ٣٧٤ ٨٨ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ٣٧٥
صفحة رقم 442رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٨٩ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٣٧٥ ٩٠ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ٣٧٥ ٩١ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ٣٧٨ ٩٢ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ٣٨٠ ٩٣ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ٣٨٢ ٩٤ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ٣٨٣ ٩٥ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ٣٨٤ ٩٦ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ٣٨٤ ٩٧ الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ٣٨٥ ٩٨ وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ٣٨٧ ٩٩ وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ٣٨٨ ١٠٠ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ ٣٩٠ ١٠١ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ٣٩٢ ١٠٢ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ٣٩٥ ١٠٣ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ٣٩٦ ١٠٤ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٣٩٨ ١٠٥ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ٣٩٩ ١٠٦ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ٣٩٩ ١٠٧ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ٤٠١ ١٠٨ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ ٤٠٤ ١٠٩ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى ٤٠٥ ١١٠ لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا ٤٠٦ ١١١ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٤٠٨ ١١٢ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ ٤١١ ١١٣ ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ٤١٤ ١١٤ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ٤١٥ ١١٥ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ٤١٦ ١١٦ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ٤١٧ ١١٧ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ ٤١٨ ١١٨ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ٤٢١
صفحة رقم 443
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ١١٩ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا ٤٢٣ ١٢٠ ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ٤٢٥ ١٢١ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ٤٢٦ ١٢٢ وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ٤٢٦ ١٢٣ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ ٤٢٨ ١٢٤ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ٤٣٠ ١٢٥ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ٤٣٠ ١٢٦ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي ٤٣١ ١٢٧ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ ٤٣١ ١٢٨ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ٤٣٢ ١٢٩ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ٤٣٣ تم
بحمد الله
[المجلد السابع]
سورة يونسبسم الله الرّحمن الرّحيم رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) صدق الله العظيم صفحة رقم 3
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته الى يوم الدين.وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة «يونس» - عليه السلام- حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية وآداب عالية، وهدايات جامعة، وإرشادات حكيمة، وحجج باهرة، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق..
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها، تكون بمثابة التعريف بها، وبمقاصدها الإجمالية.
وأحمد الله- تعالى- أجزل الحمد وأوفاه، أن وفقني قبل ذلك لتفسير سور: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة»...
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، إنه أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم المؤلف د. محمد سيد طنطاوى صفحة رقم 5
تمهيد بين يدي السورة
١- سورة يونس- عليه السلام- هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور: «الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة».
٢- وكان نزولها بعد سورة «الإسراء».
٣- وعدد آياتها: تسع ومائة آية عند الجمهور. وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات.
٤- وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس- عليه السلام- ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب، وفي ذلك تقول السورة الكريمة: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ «١».
٥- وسورة يونس من السور المكية، وعلى هذا سار المحققون من العلماء.
وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله- تعالى- وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ والآيتين الرابعة والتسعين، والخامسة والتسعين وهما قوله- تعالى-: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
قال صاحب المنار: وقال السيوطي في الإتقان: استثنى منها الآيات ٤٠، ٩٤، ٩٥، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود. وقيل: من أولها إلى رأس أربعين آية مكي، والباقي مدني، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء.
ثم قال صاحب المنار: وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية، وهو مما لم نثبت به رواية، وكون المراد بالذين يقرءون الكتاب في الآية (٩٤) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة، وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة، ولذلك قال الرسول
صلى الله عليه وسلم: «لا أشك ولا أسأل»، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري.
وثانيهما: أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى، كقوله- تعالى- في سورة الإسراء:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ «١».
وقوله- سبحانه- في سورة الأنبياء: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «٢».
والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة يونس جميعها مكية، كما قال المحققون من العلماء، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تهتم بإثبات وحدانية الله، وبإثبات صدق النبي ﷺ وبإثبات أن هذا القرآن من عند الله، وأن البعث حق، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين..
والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه، وعن موقف المشركين من النبي ﷺ ودعوته، وعن الأدلة على وحدانية الله وقدرته.
قال- تعالى-: الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الآية ١٢.
ثم تحكى مصارع الظالمين، وأقوالهم الفاسدة، ورد القرآن عليهم فتقول: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
وبعد أن تمضى السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين، وفي بيان الطبائع البشرية، نراها في مطلع الربع الثالث. تصور لنا حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة الضالين، فتقول:
(٢) الآية ٧ تفسير المنار ج ١١ ص ١٤١ الطبعة الرابعة- مكتبة القاهرة.
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ثم تأمر السورة الكريمة النبي ﷺ أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده، وعمن يهدى إلى الحق، فتقول: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.
وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم. وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد، تأخذ في تسلية الرسول ﷺ وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول:
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ...
ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول ﷺ من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور، وفيها الهداية لما في النفوس فتقول:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
ثم تسوق جانبا من مظاهر قدرة الله النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، فتقول: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
وفي مطلع الربع الخامس منها تحكى لنا جانبا من قصة نوح- عليه السلام- مع قومه، وكيف أنه نصحهم، وذكرهم بآيات الله، ولكنهم لم يستمعوا إليه، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال- تعالى-:
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ.
ثم تحكى لنا جانبا من قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون، ومن المحاورات، والمجادلات التي دارت بينهما، ومن الدعوات المستجابة التي توجه بها موسى إلى خالقه، فتقول: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
ثم نراها في الربع السادس والأخير منها، تحكى لنا ما قاله فرعون عند ما أدركه الغرق، كما تخبرنا عن النهاية الطيبة التي لقوم يونس- عليه السلام- بسبب إيمانهم، ثم تسوق ألوانا من مظاهر قدرة الله، ومن حكمه العادل بين عباده، ومن رعايته لأوليائه ورسله فتقول:
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه نداء إلى الناس تبين لهم فيه أن من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، وأن من ضل فإنما يضل عليها فتقول: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
تلك أهم المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السورة الكريمة، ومنها نرى بوضوح أن السورة الكريمة قد عنيت عناية بارزة بإثبات وحدانية الله وقدرته النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، تارة عن طريق مخلوقاته التي يشاهدونها كما في قوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ....
وتارة عن طريق اعترافهم بأن الله وحده هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما في قوله- تعالى-: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ.
وتارة عن طريق لجوئهم إليه وحده لا سيما عند الشدائد والمحن، كما حدث من فرعون عند ما أدركه الغرق.
كذلك نرى السورة الكريمة قد عنيت بدعوة الناس إلى التدبر والتفكر وإلى الاعتبار بمصارع الظالمين، وإلى عدم التعلق بزخرف الحياة الدنيا..
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
كذلك نرى السورة الكريمة قد اهتمت بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم، وحول البعث وما فيه من ثواب وعقاب...
فأثبتت أن هذا القرآن من عند الله، وتحدتهم أن يأتوا بسورة من مثله فقالت: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
كما أثبتت أن يوم القيامة حق، وأنهم لن ينجيهم من عذاب الله في ذلك اليوم ندمهم أو ما يقدمونه من فداء فقالت: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
هذا، والسورة الكريمة بعد كل ذلك تمتاز بأنها قد عرضت ما عرضت من هدايات وتوجيهات بأسلوب بليغ مؤثر، تقشعر منه الجلود، وتلين منه القلوب، وتخشع له النفوس..
مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم د. محمد سيد طنطاوى