آيات من القرآن الكريم

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﱿ

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْيَقِينَ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ لَهُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْيَقِينُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْإِيمَانُ هُوَ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٢: ٤) وَهُوَ دَرَجَاتٌ: مِنْهَا التَّقْلِيدُ الْجَازِمُ، وَمِنْهَا الْمَعْلُومُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا الشَّكُّ وَالزَّوَالُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تُصُوِّرَ ارْتِدَادُ مُؤْمِنٍ عَنْ دِينِهِ، وَمِنْهَا مَا يَصِيرُ وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، وَالنُّورِ الْإِلَهِيِّ، بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْبُرْهَانِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ كَذَا مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ كَذَا، فَهُوَ هُوَ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَلَكِنَّهُ نَادِرُ الْوُقُوعِ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِيمَانِ، وَمَعَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ فِي وَصْفِهِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِهِ، وَفِي تَرَتُّبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ.
وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ تَرَى شَبَحًا فِي سُدْفَةِ الْفَجْرِ فَتَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ فِي انْتِصَابِ قَامَتِهِ ثُمَّ
تَزْدَادُ عِلْمًا بِهِ كُلَّمَا انْتَشَرَ الضِّيَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ تَفْصِيلِيًّا. وَالْبُرْهَانُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُفِيدُ لِهَذَا الْيَقِينِ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ النَّظَرِيَّةُ فِي دَرَجَةِ الضَّرُورِيَّاتِ قُوَّةً وَثَبَاتًا. وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الْيَقِينَ إِلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: عِلْمِ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَشْفِ، وَحَقِّ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالذَّوْقِ وَالْوِجْدَانِ. وَمَثَّلَ لَهَا بَعْضُهُمْ بِالْفَنَاءِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْمَوْتِ، فَكُلُّ أَحَدٍ عِنْدَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ، فَإِذَا عَايَنَ مَلَائِكَةَ الْمَوْتِ عِنْدَ الْحَشْرَجَةِ وَقَبْلَ قَبْضِ الرُّوحِ كَانَ عَيْنَ الْيَقِينِ، فَإِذَا مَاتَ بِالْفِعْلِ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ حَقِّ الْيَقِينِ، لَكِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ وَمَا قَبْلَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا التَّكْلِيفُ.
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: إِنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ. وَبَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّورَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يُعَارِضُهُ، وَسَنُحَقِّقُ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ.

صفحة رقم 70

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْعَرَبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) (٦٢: ٢) فَالْمِنَّةُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمِهِ أَعْظَمُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ أَنْهَضُ، وَأَخَصُّ قَوْمِهِ بِهِ قَبِيلَتُهُ قُرَيْشٌ، فَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ الْعَرَبُ لَمَا آمَنَ الْعَجَمُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (٧: ١٥٨) وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ دَعْوَتَهُ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا فِي قِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَالْعَرَبُ آمَنُوا بِدَعْوَتِهِ مُبَاشَرَةً، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ، الْعَرَبُ آمَنُوا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْعَمَلِ، وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي شَخْصِهِ، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ وَمَا
شَاهَدُوا مِنْ عَدْلِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، ثُمَّ بِدَعْوَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَا يَأْتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ التَّالِيَةِ (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) (١٠: ٢) إِلَخْ، وَلَكِنَّ آيَةَ أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ هَذِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي كَوْنِ الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ اللهِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ جَمِيعِ كُفَّارِ الْأُمَمِ، وَآيَةُ آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي امْتِنَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَصَمِيمِ قَوْمِهِمْ، لِتَأْيِيدِ الْحُجَّةِ بِالْمِنَّةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ كُلِّ قَوْمٍ حُبَّ الِاخْتِصَاصِ بِالْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤٣: ٤٤) أَيْ شَرَفٌ لَكَ وَلَهُمْ، تُذْكَرُونَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، وَيُدَوَّنُ لَكُمْ فِي التَّوَارِيخِ، وَإِنَّمَا قَاوَمَهُ وَعَانَدَهُ أَكَابِرُ قَوْمِهِ حَتَّى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَنَفَةً وَاسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ دُونَهُمْ، وَلِمَا يَتَضَمَّنُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِكُفْرِهِمْ وَكُفْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِفَوْزِهِ وَبِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بِمَسَافَاتٍ تُطَاوِلُ السَّمَاءَ رِفْعَةً وَشَرَفًا، دَعْ مَا هُوَ فَوْقَ مَجْدِ الدُّنْيَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَارُوا يَفْتَخِرُونَ بِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، بِأَكْثَرَ مِمَّا يُبِيحُهُ دِينُهُ لَهُمْ، حَتَّى صَارَ أَقْرَبُهُمْ يَتَّكِلُ عَلَى نَسَبِهِ فَيُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ أَكَّدَ تَعَالَى هَذِهِ الْمِنَّةَ الْخَاصَّةَ بِوَصْفِهِ هَذَا الرَّسُولَ بِقَوْلِهِ: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) إِلَخْ. الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَلِقَاءُ الْمَكْرُوهِ الشَّدِيدِ، وَقَيَّدَهُ الرَّاغِبُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ، وَعَزَّ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ: ثَقُلَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنَفَةِ عَنْهُ، وَ ((مَا)) مَصْدَرِيَّةٌ - أَيْ شَدِيدٌ عَلَى طَبْعِهِ وَشُعُورِهِ الْقَوْمِيِّ عَنَتُكُمْ لِأَنَّهُ مِنْكُمْ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونُوا فِي دُنْيَاهُمْ أُمَّةً ضَعِيفَةً ذَلِيلَةً يُعْنِتُهَا أَعْدَاؤُهَا بِسِيَادَتِهِمْ عَلَيْهَا وَتَحَكُّمِهِمْ فِيهَا، وَلَا أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) الْحِرْصُ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ

صفحة رقم 71

بِحِفْظِ الْمَوْجُودِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرِيصًا عَلَى اهْتِدَاءِ قَوْمِهِ بِهِ بِإِيمَانِ كَافِرِهِمْ وَثَبَاتِ مُؤْمِنِهِمْ فِي دِينِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُ: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ) (١٦: ٣٧) الْآيَةَ وَقَالَ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)
(١٢: ١٠٣) (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أَيْ شَدِيدُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ وَالْعَوَاطِفِ السَّامِيَةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَصِّ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَرْحَمُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَرْأَفُ، وَكُلُّ شَاقٍّ مِنْهَا كَالْجِهَادِ فَهُوَ مَنْجَاةٌ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الشَّاقِّ مِنْهَا يُبَالِغُ حَدَّ الْعَنَتِ، لِلْقَطْعِ فِي هَذَا الدِّينِ بِنَفْيِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ.
وَصَفَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى، وَسَمَّاهُ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، بَعْدَ وَصْفِهِ بِوَصْفَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ نُعُوتِ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الْمُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْأُمَمِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَفِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ أَنَّ الرَّأْفَةَ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ. وَجَعَلَهُمَا بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّأْفَةَ أَخَصُّ، لَا تَكَادُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَالرَّحْمَةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ.
وَقَالَ أُسْتَاذُنَا: إِنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ، اخْتِيَارًا لِقَوْلِ الرَّازِيِّ (ص ١١ ج ٢ ط الْهَيْئَةِ) وَأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَكَانِ الضَّعْفِ وَالشَّفَقَةِ وَالرِّقَّةِ كَقَوْلِهِمْ: رَأَفَ بِوَلَدِهِ وَتَرَأَّفَ بِهِ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّحِيمِ هُوَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ قَالَ: رَءُوفٌ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ، وَرَحِيمٌ بِهِمْ كُلِّهِمْ. وَتَخْصِيصُ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ - لَا يُعَارِضُ كَوْنَ رِسَالَتِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ مَبْذُولَةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٩: ٧٣) أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ الرِّقَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْأَدَبُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٣: ١٥٩).
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْآيَةِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قَالَ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضَرِيِّهَا وَرَبِيعِيِّهَا وَيَمَانِيِّهَا، يَعْنِي أَنَّ نَسَبَهُ مُتَشَعِّبٌ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَبُطُونِهَا. وَعَنْهُ فِي (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) قَالَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أَنْ يُؤْمِنَ كُفَّارُكُمْ.
وَمِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي الْآيَةِ قِرَاءَةُ ((أَنْفَسِكُمْ)) بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَاسَةِ، رَوَاهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ، وَهِيَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا أَنَّ الْمَعْهُودَ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ أَنَّ النَّفِيسَ وَالْأَنْفَسَ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ لَا الْأَشْخَاصُ.

صفحة رقم 72
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية