[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٤]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ
قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا. قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟
قال: «الجنة» [٦٠] «١».
وقال الأعمش: الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون: بتقديم الفاعل على المفعول وَعْداً نصب على المصدر عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ثم هنّأهم فقال عزّ من قائل:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قال قتادة: ثامنهم وأغلى ثمنهم، وقال الحسن: أسمعوا بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلّا دخل في هذه البيعة.
قال: ومرّ أعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية قال: كلام من هذا؟ قال: كلام الله.
قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد «٢».
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي. قال: أنشدنا أبو الحسن العقيلي. أنشدنا بشر بن موسى الأسدي. أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق (رضي الله عنه).
أثامن بالنفس النفيسة ربها | فليس لها في الخلق كلهم ثمن |
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها | بشيء سواها إن ذلكم غبن |
إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها | فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن «٣» |
(٢) انظر: تفسير القرطبي: ٨/ ٢٦٨.
(٣) راجع تفسير القرطبي: ٨/ ٢٦٨، وفيه بدل الشطر الأخير:
لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن.
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي. أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي. أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي:
من يشتري قبة في العدن عالية | في ظل طوبى رفيعات مبانيها |
دلالها المصطفى والله بايعها | فمن أراد وجبريل يناديها |
وقال الحسن وقتادة: هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء الْحامِدُونَ الله على كل حال في كل نعمة السَّائِحُونَ الصائمون.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «السائحون الصائمون» [٦١] «١».
وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال: سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال:
هم الصائمون ألم تر أنّ الله عزّ وجلّ إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين.
قال سفيان بن عيينة: أما إنّ الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الشاعر في الصوم:
تراه يصلي ليله ونهاره | يظل كثير الذكر لله سائحا «٢» |
السَّائِحُونَ الغزاة والمجاهدون، وعن عمرو بن نافع. قال: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: السَّائِحُونَ قال: هم طلبة العلم الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال بسام بن عبد الله: المعروف السنّة والمنكر البدعة.
وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال ابن عباس: القائمون على طاعة الله، وقال الحسن: أهل
(٢) فتح القدير: ٢/ ٤٠٨.
الوفاء ببيعة الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية.
فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقا وأحسنهم عندي [قولا] ولأنت أعظم عليّ حقا من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله احاجّ لك بها عند الله».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لأستغفر لك يا عم الله» [٦٢] فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «١» الآية «٢».
قال الحسن بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلّم بمكة.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلّم لعمّه.
فأنزل الله تعالى هذه الآية «٣».
وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب [قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون] «٤» قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه، قالت قريش له: يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنّة فيكون لك شفاء، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو بكر معه جالس فقال زيد: إنّ عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إليّ من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء.
(٢) المستدرك ٢/ ٣٣٦.
(٣) قال ابن حجر في فتح الباري: «وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) أتى قبر امه لما اعتمر فاستأذن ربّه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول» ثم ذكر عدة روايات في ذلك من طرق مختلفة إلى أن قال: «فهذه طرق يعضد بعضها بعضا وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب،.. ، ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره (صلى الله عليه وسلّم) للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك... » انتهى كلامه (فتح الباري: ٨/ ٣٩١، تفسير سورة القصص ح ٤٤٩٤.
(٤) زيادة عن أسباب النزول للواحدي: ١٧٧.
فقال أبو بكر: إن الله حرّمها على الكافرين. قال: فرجع إليهم الرسول فقال: بلغت محمّدا الذي أرسلتموني به فلم يحر إليّ شيئا فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين قال:
فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ طعامها وشرابها»، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءا رجالا فقال: «خلوّا بيني وبين عمي»، فقالوا: ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال: «يا عم جزيت عني خيرا كفلتني صغيرا وحفظتني كبيرا فجزيت عني خيرا. يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قال: وما هي يا ابن أخي؟
قال: قل لا إله إلّا الله وحده لا شريك له». قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تعيّر بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك، قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردّني فاستغفر له بعد ما مات» [٦٣].
فقال المسلمون: ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية.
والدليل- على ما قيل- أن أبا طالب مات كافرا «١» ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني. قال: حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال: قال علي (عليه السلام) لما مات أبو طالب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إن عمك.... «٢»... قال: اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليّ أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أنّ لي بها ما على الأرض من شيء.
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فقام وبكى وبكى من حوله فقال: «إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت» [٦٤]، فلم نر باكيا أكثر من يومئذ.
(٢) وذكر كلمة قبيحة على ما قيل، وعلي (عليه السلام) أجل من أن يصدر منه هذا الكلام في حق شخص عادي فكيف تجاه أبيه. [.....]
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا،
وقال قتادة: قال رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلى، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» [٦٥]، فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما ينبغي للنبي وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وقال أهل المعاني: ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «١» وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «٢» والأخرى بمعنى النهي كقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «٣»، وقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا نهي.
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بموتهم على الكفر، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلّا عن المشركين «٤» كقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا الآية، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الآية.
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : أنزل الله قوله تعالى خبرا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «٥». [قال علي:] سمعت فلانا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية «٦»
، وأنزل قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «٧» وقوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ يعني بعد موعده.
وقال بعضهم: الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك
(٢) سورة آل عمران: ١٤٥.
(٣) سورة الأحزاب: ٥٣.
(٤) تفسير الطبري: ١١/ ٦١.
(٥) سورة مريم: ٤٧.
(٦) تفسير الطبري: ١١/ ٦٠.
(٧) سورة الممتحنة: ٤.
قال إبراهيم: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الآية، تدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ [بموت أبيه] تَبَرَّأَ مِنْهُ وقيل: معناه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ في الآخرة أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وذلك على ما
روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ [بحبري] فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم (عليه السلام) التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ
وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبيّن ويتبرأ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ اختلفوا في معناه،
فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن الأوّاه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس: تكلّمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشيء كرهه فنهاها عمر (رضي الله عنه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعرض عنها فإنها أوّاهة» قيل: يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة» [٦٦].
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعّاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء.
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرا إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن [الموقن، وروي عن......] «١» عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوّه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله،
وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن [ساق] أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال:
إنه أوّاه، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دفن ميّتا فقال: «يرحمك الله إن كنت لأواه» [٦٧]، يعني تلاوة القرآن «١».
وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم (عليه السلام) يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه «٢».
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «دعه فإنه أواه» [٦٨]. قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح «٣».
وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر (رضي الله عنه) يسمّى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضا: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي:
إذا ما قمت ارحلها بليل | تأوه آهة الرجل الحزين «٤» |
فأوه الراعي وضوضا كلبه | ولا يقال منه فعل يفعل |
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٧٥.
(٣) تفسير الطبري: ١١/ ٦٩.
(٤) كتاب العين للفراهيدي: ٤/ ١٠٤.
(٥) سورة مريم: ٤٦.
(٦) سورة مريم: ٤٧. [.....]