آيات من القرآن الكريم

۞ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ

جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ نَحْوُ هَذَا. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَأَهْلِهِ، وَبَعْضَهَا ضَعِيفٌ، وَبَعْضَهَا لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الْمُصَرِّحَةَ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي صِحَّتِهَا وَصَرَاحَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ قَالَ: يَعْنِي قَوَاعِدَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، حَيْثُ انْهَارَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: يَعْنِي: الشَّكَّ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ يَعْنِي: الموت.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ. فِي قَوْلِهِ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: غَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قَالَ: إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قَالَ: إلا أن يتوبوا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
لَمَّا شَرَحَ فَضَائِحَ الْمُنَافِقِينَ وَقَبَائِحَهُمْ بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَكَرَ أَقْسَامَهُمْ، وَفَرَّعَ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَا هُوَ لَائِقٌ بِهِ عَادَ عَلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَذِكْرُ الشِّرَاءِ تَمْثِيلٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «١» مَثَّلَ سُبْحَانَهُ إِثَابَةَ الْمُجَاهِدِينَ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالشِّرَاءِ، وَأَصْلُ الشِّرَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ: هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنِ الْمِلْكِ بِشَيْءٍ آخَرَ، مِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ، أَوْ أَنْفَعَ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدُونَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِمَّنْ يَسْكُنُهَا، فَقَدْ جَادُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ أَنْفَسُ الْأَعْلَاقِ «٢»، وَالْجُودُ بِهَا غَايَةُ الْجُودِ:

يَجُودُ بِالنَّفْسِ إِنْ ضَنَّ الْجَبَانُ بِهَا وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ
وَجَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْجَنَّةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يَطْلُبُهُ الْعِبَادُ، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هُنَا:
أَنْفُسُ الْمُجَاهِدِينَ، وَبِالْأَمْوَالِ: مَا يُنْفِقُونَهُ فِي الْجِهَادِ. قَوْلُهُ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَيَانٌ للبيع يقتضيه
(١). البقرة: ١٦.
(٢). قال في القاموس: العلق: النفيس من كل شيء، ج أعلاق، وعلوق.

صفحة رقم 463

الِاشْتِرَاءُ الْمَذْكُورُ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ يَبِيعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ؟ فَقِيلَ: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِبْلَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْمَوْتِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفَّارِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ عَلَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إِخْبَارٌ من الله سبحانه: أن فريضة الجهاد استحقاق الْجَنَّةِ بِهَا قَدْ ثَبَتَ الْوَعْدُ بِهَا مِنَ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا وَقَعَ فِي القرآن، وانتصاب وعدا وحقا: على المصدرية، أو الثاني نعت للأوّل، وفي التَّوْرَاةِ:
مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَعْدًا ثَابِتًا فِيهَا. قَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فِي هَذَا مِنْ تَأْكِيدِ التَّرْغِيبِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي الْجِهَادِ، وَالتَّنْشِيطِ لَهُمْ عَلَى بَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَجَاءَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْفَخِيمَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْجَنَّةِ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ، لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ثُمَّ زَادَهُمْ سُرُورًا وَحُبُورًا، فَقَالَ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أَيْ: أَظْهِرُوا السُّرُورَ بِذَلِكَ، وَالْبِشَارَةُ: هِيَ إِظْهَارُ السُّرُورِ، وَظُهُورُهُ يَكُونُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ، وَلِذَا يُقَالُ: أَسَارِيرُ الْوَجْهِ، أَيِ: الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا السُّرُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الِاسْتِبْشَارِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: أَظْهِرُوا السُّرُورَ بِهَذَا الْبَيْعِ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ الله عزّ وجلّ فقد ربحتم فيها رِبْحًا لَمْ يَرْبَحْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِكُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ الَّذِي رَبِحُوا فِيهِ الْجَنَّةَ، وَوَصْفُ الْفَوْزِ وَهُوَ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، بِالْعِظَمِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَوْزٌ لَا فَوْزَ مِثْلَهُ. قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ التَّائِبُونَ، يَعْنِي: الْمُؤْمِنُونَ، وَالتَّائِبُ:
الرَّاجِعُ، أَيْ: هُمُ الرَّاجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَنِ الْحَالَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلطَّاعَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ:
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ، أَيِ: التَّائِبُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَهُمُ الْجَنَّةُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ أَوْصَافًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ الْوَعْدُ خَاصًّا بِمُجَاهِدِينَ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ: مِنْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى.
وَأَنَّهَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «التَّائِبِينَ الْعَابِدِينَ إِلَى آخِرِهَا» وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَوْصَافٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: إِنَّ ارْتِفَاعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ يُقَاتِلُونَ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْعَابِدُونَ، وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ كَذَلِكَ، أَيِ: التَّائِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ. وَفِيهِ مِنَ الْبُعْدِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْعَابِدُونَ: الْقَائِمُونَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مع الإخلاص، والْحامِدُونَ: الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ،

صفحة رقم 464

والسَّائِحُونَ: قِيلَ: هُمُ الصَّائِمُونَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، ومنه قوله تعالى: عابِداتٍ سائِحاتٍ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلصَّائِمِ: سَائِحٌ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ اللَّذَّاتِ كَمَا يَتْرُكُهَا السَّائِحُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبي طالب ابن عبد المطلب:

وبالسّائحين لا يذوقون قطرة لربّهم والذاكرات العوامل
وقال آخر:
برّا يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ سَائِحَا
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ: أَنَّ السَّائِحِينَ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ الْفَرْضَ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ: الْمُجَاهِدُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: السَّائِحُونَ الْمُهَاجِرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: هُمُ الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَمَلَكُوتِهِ، وَمَا خَلَقَ مِنَ الْعِبَرِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا: الذَّهَابُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا يَسِيحُ الْمَاءُ، وَهِيَ مِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى الطَّاعَةِ لِانْقِطَاعِهِ عَنِ الْخَلْقِ، وَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالتَّفَكُّرِ فِي مخلوقات الله سبحانه، والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ معناه: المصلون، والْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ: الْقَائِمُونَ بِأَمْرِ النَّاسِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْقَائِمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مُنْكَرًا، أَيْ:
شَيْئًا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: الْقَائِمُونَ بِحِفْظِ شَرَائِعِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِي الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُمَا: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ إِلَخْ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحَافِظُونَ بِالْوَاوِ لِقُرْبِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ فِي الصِّفَاتِ يَجِيءُ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «١» وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «٢»، وقوله:
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «٣»، وقوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «٤»، وقد أنكر: والثمانية، أَبُو عَلِيِّ الْفَارِسِيُّ، وَنَاظَرَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فما لنا؟ قال: الجنة، قال:
رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ فَكَبَّرَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَيْ رِدَائِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَيْعٌ رَبِيحٌ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ»
. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ اشْتَرَطَ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ عَلَى مَنْ بايعه
(١). غافر: ٣.
(٢). التحريم: ٥. [.....]
(٣). الزمر: ٧٣.
(٤). الكهف: ٢٢.

صفحة رقم 465
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني
الناشر
دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
سنة النشر
1414
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية