
الأحكام التي يحكم بها عليهم
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهذا استئناف لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله والمؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتله كافر وأنفق ماله في سبيل الله فإنه يأخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل وهو تسليم المبيع من الأنفس والأموال فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.
قرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل، والباقون بعكسه فمعنى تقديم الفاعل على المفعول أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي وعدهم الله وعدا ثابتا على الله فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى فَاسْتَبْشِرُوا أي فافرحوا غاية الفرح بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي بجهادكم الذي فزتم به بالجنة وَذلِكَ أي الجنة التي هي ثمن بذل الأنفس والأموال هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) أي فلا فوز أعظم منه التَّائِبُونَ وهو رفع على المدح، أي هم التائبون من كل معصية كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي، والأعمش «التائبين» بالياء إلى قوله تعالى: «والحافظين» إما نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين، ويجوز أن يكون التائبون رفعا على البدل من الواو في يقاتلون.
واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أربعة أمور:
أولها: احتراق القلب عند صدور المعصية.
ثانيها: الندم على ما مضى.
ثالثها: العزم على الترك في المستقبل.
رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية فليس بتائب، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت الْعابِدُونَ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذين يريدون عبادة الله واجبة عليهم الْحامِدُونَ أي الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم السَّائِحُونَ أي الصائمون
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سياحة أمتي الصيام»
«١». وقال عكرمة: أي طلاب

العلم فإنهم ينتقلون من بلد إلى بلد الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلون الصلوات الخمس الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان والطاعة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك والمعاصي وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي لتكاليف الله المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) الموصوفين بهذه الصفات بالجنة ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما جاز لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي ذوي قرابات لهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) أي أهل النار بأن ماتوا على الكفر وسبب نزول هذه الآية استغفار ناس لآبائهم الذين ماتوا على الكفر.
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت:
أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه! فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون يستغفرون لآبائهم المشركين حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي إلا لأجل موعدة وعدها إبراهيم إياه بقوله: لأستغفرن لك، أي لأطلبن مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يمحو ما قبله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ أي إنه مستمر على الكفر ومات عليه تَبَرَّأَ مِنْهُ أي ترك الاستغفار له أي إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيا فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: لما مرض أبو طالب أتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال المسلمون: هذا محمد يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه فاستغفروا لقراباتهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم أنزل وما كان استغفار إبراهيم الآية.
وروى ابن جرير عن عمرو بن دينار أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي» «١»، فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي لعمه، فأنزل الله
ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية إلى قوله تعالى تَبَرَّأَ مِنْهُ فظهر بهذه الأخبار أن الآية نزلت في استغفار المسلمين لأقاربهم المشركين لا في حق أبي طالب، لأن هذه السورة كلها مدنية نزلت بعد تبوك، وبينها وبين موت أبي طالب نحو اثني عشر سنة، وأيضا إن عم إبراهيم آزر كان يتخذ أصناما آلهة ولم ينقل عن أبي طالب أنه اتخذ أصناما آلهة وعبد حجرا أو نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن

عبادة ربه وإنما هو ترك النطق بالشهادتين لخوف مسبة لا للعناد للإسلام، أو ترك بعض الواجبات ومع ذلك قلبه مشحون بتصديق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومثل هذا ناج في الآخرة على مقتضى ديننا فلا يليق بالحكمة، ولا بمحاسن الشريعة الغرّاء، ولا بقواعد الأثمة من أهل الكلام أن يكون هو وآزر- عم إبراهيم- في مرتبة واحدة فإن أبا طالب رباه صلّى الله عليه وسلّم صغيرا وآواه كبيرا، ونصّره وعزره، ووقره، وذب عنه، ومدحه، ووصى باتباعه. وأما ما
روي أن عليا ضحك على المنبر ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا وأنا أصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان؟ فدعاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا.
فهذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلاة، وقد قرأ بأنه لا بأس بالتوحيد وإباؤه عن صلاة النفل لا يدل على إبائه عن التوحيد، ليس في حديث عمرو بن دينار السابق دلالة قطعية على شركه، وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب» «١»
فهذا يمكن أن يكون معناه أن إبراهيم استغفر لأبيه مع شركه فكيف لا أستغفر أنا لأبي طالب مع خطيئته دون الشرك فلا أزال أستغفر له حتى ينهاني عنه ربي ولم ينه صلّى الله عليه وسلّم بل نهى عن الاستغفار للمشركين لا لخصوص عمه كما صرح بهذا ما
روي عن قتادة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن الاستغفار لآبائهم فقال:
«والله إني لأستغفرن لأبي- أي لعمي- كما استغفر إبراهيم لأبيه». فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن لا أستغفر لمن كان كافرا» «٢»
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفرن لأبي»
ولم يقل: أمرت أن لا أستغفر له بل
قال: «لمن مات مشركا»
جواب لسؤال أصحابه مع إشارة خفية إلى أن عمه لم يكن مشركا والله أعلم. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير الدعاء والتضرع حَلِيمٌ (١١٤) أي صبور على المحنة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي ما يجب أن يحترزوا عنه أي لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه أي وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين فلا تنزجروا عما نهيتم عنه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير شريك
(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣: ٢٨٣).

له فيه يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي متولى الأمور. وَلا نَصِيرٍ (١١٦) أي لما أمر الله بالبراءة من الكفار بين أن له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصرا لكم فهم لا يقدرون على إضراركم أي إنكم صرتم محرومين عن معاونتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم، والواجب عليكم أن تنقادوا لحكم الله وتكليفه لكونه إلهكم ولكونكم عبيدا له لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدا في السفر إلى تبوك وكانت لهم عسرة من الزاد وعسرة من الظهر، وعسرة من الحر، وعسرة من الماء فربما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وكان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكانوا قد خرجوا في قيظ شديد وأصابهم فيه عطش شديد حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه أي لقد عفى الله عن النبي في إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو شيء صدر عنه من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وعفى الله عن المهاجرين والأنصار من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة كما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى أن يفارق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الغزو لحر شديد ولم ترد الميل عن الدين وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منها ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي عفى الله عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية لما صبروا وندموا على ذلك الهم إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) فلا يحملوهم ما لا يطيقون من العبادة ويوصل إليهم المنافع وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أي وتاب الله على الثلاثة الذين أخروا في قبول التوبة عن الطائفة الأولى ابن لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت الأرض عليهم مع سعتها بسبب مجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة لأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان معرضا عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمرهم باعتزال أزواجهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوما وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي ضاقت قلوبهم إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء بسبب تأخير أمرهم عن قبول التوبة وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا أنه لا ملجأ لأحد من سخطه تعالى إلا إليه بالتضرع ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي ثم وفقهم للتوبة الصحيحة المقبولة لِيَتُوبُوا أي ليحصلوا التوبة إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
ولما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر» قد أنزل الله عذر أصحابنا، فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشّرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا