آيات من القرآن الكريم

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

عن غزوة تبوك ولم يسارعوا إلى الاعتذار والتوبة. فأرجأ الله أمرهم ثم شملهم بتوبته وعفوه في الآية [١١٧] التي تأتي بعد قليل. وأوردوا ثلاثة أسماء قالوا إن الآية التي نحن في صددها فيهم. وهم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.
والآية [١١٧] هي في شأن الذين اشتركوا في الغزوة. وهناك أحاديث صحيحة تذكر أن كعب بن مالك ورفيقيه هم الذين نزلت في توبتهم آية أخرى هي الآية [١١٨] بحيث لا يبقى محل للقول إن الآية التي نحن في صددها نزلت فيهم.
ولذلك فنحن نتوقف في بعض الروايات التي لم ترد في كتب حديث صحيحة أيضا والذي يتبادر لنا من روح الآية وعطفها على ما سبقها أنها هي الأخرى استمرار للسياق الاستطرادي لتشير كما قلنا إلى صنف آخر من صنوف المسلمين لم يكن أمرهم جليا من حيث النفاق أو الإخلاص. وهذه صورة مألوفة كذلك في المجتمعات البشرية. ولعلّ الآية قد تضمنت تلقينا بعدم التسرّع في حقّ أصحاب هذه الصورة ما داموا لا يجاهرون بذنب ولا يقفون موقفا منكرا وضارا ولو لم يكن أمرهم جليا كل الجلاء. وفي هذا ما فيه من الصواب والحكمة ثم التلقين المستمر المدى إزاء أصحاب هذه الصورة المألوفة في كل ظرف.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
. (١) ضرارا: بقصد الضرر والمضارة.

صفحة رقم 531

(٢) إرصادا: مكان انتظار وترصد أو ارتقابا.
(٣) شفا: الطرف الدقيق وراء الهاوية أو الحافة.
(٤) جرف: المكان المرتفع الرخو من تآكل السيول.
(٥) هار: مائل للسقوط والانهيار.
(٦) إلا أن تقطع: قرئت (إلّا أن) بصيغة (إلى أن) وقرئت (تقطع) بفتح التاء وبضمّها وعلى كل حال فالجمهور على أن معنى الجملة إلى أن تقطع قلوبهم بالموت.
في هذه الآيات:
(١) إشارة إلى فريق أنشئوا لهم مسجدا خاصا.
٢- وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية.
وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنو النية. فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
٣- وأمر للنبي بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحقّ بذلك لأن أصحابه مخلصون.
يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
٤- وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرّب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
٥- وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنّم. وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم

صفحة رقم 532

الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد في صددها من روايات. وما احتواه الفصل الاستطرادي من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري «١» وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحرّ وقد صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «٢» وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذكر الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا.
كان نبذ الشرك ووحّد ثم تنصّر وترهّب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة قال له ما الذي جئت به؟ قال له جئت بالحنيفية دين إبراهيم فقال أنا عليها فقال له النبي إنك لست عليها فقال بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منّا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي آمين فقال أبو عامر لا

(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(٢) هذا الخبر مذكور في حديث الهجرة الطويل الذي رواه البخاري عن عائشة وأوردناه في سياق تعليقنا على الآيات [٣٨- ٤١] من هذه السورة.

صفحة رقم 533

أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي فقالوا له إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه. وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلّي فيه للبركة.
فصدقهم وقال لهم إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم بضعة أشخاص فهدموا المسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضدّ النبي ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية [٩٨] والذي نزل في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك. وهي:

صفحة رقم 534

(١) أعراب مخامرون متربصون.
(٢) أعراب مخلصون في أيمانهم.
(٣) سابقون أولون من المهاجرين.
(٤) سابقون أولون من الأنصار.
(٥) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
(٦) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلّى الله عليه وسلم.
(٧) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيّء.
(٨) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
(٩) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يؤلفون الغالبية.
ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية [٩٧] من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح [١١ و ١٢ و ١٥] وسورة الحجرات [١٤- ١٧] أن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحقّ أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوّه بها في الآية [١٠٠] كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتهما ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات. حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات حيث قال العوفي إنه مسجد

صفحة رقم 535

قباء وقال صاحبه إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فسألاه فقال هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته «قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسّس على التقوى فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله فقال رسول الله هو مسجدي هذا» «١».
ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزّار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء» «٢» والضمير في (فيه) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصحّ في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا يا رسول الله ما خرج منّا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء». وروى الطبري هذا بهذه الصيغة «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور.
فماذا تصنعون. قالوا نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم لا تدعوه»
.
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويّا شاملا لكل مسلم في كلّ ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية.
وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

(١) التاج ج ٤ ص ١١٩- ١٢٠.
(٢) المصدر نفسه.

صفحة رقم 536
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية