آيات من القرآن الكريم

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين «مسجد الضرار» الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإسلام والمسلمين، وحذر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة فيه، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق، ولتفريق وحدة المسلمين، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار.
اللغَة: ﴿انقلبتم﴾ رجعتم ﴿رِجْسٌ﴾ الرجس: الشيء الخبيث المستقذر، وقد يطلق على النجس ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوى إِليه ليلاً ونهاراً ﴿الأعراب﴾ جمع أعرابي قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب ﴿أَجْدَرُ﴾ أولى وأحق ﴿مََغْرَماً﴾ المغرم: الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء ﴿مَرَدُواْ﴾ ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة

صفحة رقم 518

والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها، وغصن أمرد ولا ورق عليه، وغلام أمرد لا لحية له ﴿مُرْجَوْنَ﴾ الإِرجاء: التأخير يقال: ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل ﴿ضِرَاراً﴾ الضرار: محاولة الضر وفي الحديث «لا وضر ولا ضرار» ﴿إِرْصَاداً﴾ الإِرصاد: الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به ﴿شَفَا﴾ الشفا: الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه ﴿جُرُفٍ﴾ : ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله ﴿هَارٍ﴾ ساقط يقال: تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر.
سَبَبُ النّزول: «روي أن» أبا عامر الراهب «قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجدا فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء، وأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة، والحاجة، والليلة المطيرة، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض الصحابة وقال لهم: انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم وأهله واحرقوه، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله، وفيه نزلت ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً... ﴾ الآية».
التفسِير: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غوزة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ أي قد أخرنا الله بأحوالكم وما فيه من ضمائركم من الخبث والنفاق ﴿وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية ﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ﴾ أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون ﴿إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ﴾ أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة ﴿لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي جزاءً

صفحة رقم 519

لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾ كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم ﴿فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾ أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً﴾ الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح ﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ﴾ أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بخلقه حكيم في صنعه ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾ أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر﴾ أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالهم عليهم بأفعالهم ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله﴾ أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته ﴿وَصَلَوَاتِ الرسول﴾ أي دعاء الرسول واستغفاره له ﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين ﴿سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة ﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة ﴿والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ وعدٌ بالغفران والرضوان أي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لطاعتهم وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي مقيمين فيها من غير انتهاء ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في

صفحة رقم 520

البحر: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال ﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ وهناك قال ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ وهنا ختم ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وهناك ختم ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ﴾ أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة ﴿عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس: ﴿سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ رحمة لهم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لقولهم عليهم بنياتهم ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ أي يتقبلها ممن أخلص النية ﴿وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله
﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب﴾ [غافر: ٣] ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾ صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ

صفحة رقم 521

عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بأحوالهم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ [التوبة: ١١٨] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم «مسجد الضرار» ﴿وَكُفْراً﴾ أي نصرة للكفر الذي يخفونه ﴿وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين﴾ أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء ﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾ أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى﴾ اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ أي من أول يوم ابتدئ في بنائه ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي ﴿والله يُحِبُّ المطهرين﴾ أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، ثم أشار تعالى إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾ الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة ﴿خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ ﴿فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ أي فسقط به البناء في نار جهنم ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يوافق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار أو شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه،

صفحة رقم 522

يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿الغيب والشهادة﴾ بين الكلمتين طباق.
٢ - ﴿لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾ الإِظهار في مضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم.
٣ - ﴿سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾ فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل.
٤ - ﴿عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ بين ﴿صَالِحاً سَيِّئاً﴾ طباق.
٥ - ﴿إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
٦ - ﴿هَارٍ فانهار﴾ بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية.
٧ - ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى﴾ في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس.
تنبيه: كلمة «عسى» من الله واجب قال الإِمام الرازي: وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إِذا الشمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة «عسى» أو «لعل» تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمه بشيء، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال.
لطيفَة: روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى «زيد بن صوحان» وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إِن حديثك ليعجبني، وإِن يدك لتريبني! قال زيد: ما يريبك من يدي إِنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد:

صفحة رقم 523
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
صدق الله ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ ﴾ الآية، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي.