
يعتذروا، ومنهم المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا، وقدموا أموالهم كفارة عما فرط منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم، ومنهم فريق حاروا في أمرهم وشق عليهم تخلفهم بغير عذر فأرجئوا توبتهم، ولم يفعلوا ما فعل أبو لبابة وأصحابه من ربط أنفسهم بسواري المسجد فأرجأ الله توبتهم حتى نزلت آيتا التوبة فيهم (١١٧- ١١٨) من هذه السورة.
وآخرون من المتخلفين مرجون لأمر الله، ومؤخرون لحكمه، فحالهم غامضة عند الناس، لا يدرون ما ينزل في شأنهم؟ هل يخلصون في التوبة فيتوب الله عليهم ويقبل منهم توبتهم؟ أم لا؟ فيعذبهم ويحكم عليهم كما حكم على المنافقين، والترديد إنما هو بالنسبة للناس لا بالنسبة إلى الله. ولعل الحكمة في ذلك أن بقي الرسول والمؤمنون على حالهم فلا يكلمونهم ولا يخالطونهم، تربية لهم وتهذيبا لنفوسهم، وبيانا لجرم التخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإيثار الراحة والدعة عن الجهاد ونصر الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وهؤلاء المرجون لأمر الله هم الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة ابن الربيع.
والله عليم بهم وبعباده كلهم وما به تصلح نفوسهم، وحكيم في تشريعه، وقد كان إرجاء قبول توبتهم لحكمة الله يعلمها!!.
مسجد الضرار ولم بنى؟ وموقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم منه [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)

المفردات:
ضِراراً الضرر: الذي لك به منفعة وعلى غيرك مضرة، والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وعلى هذا خرج الحديث: «لا ضرر ولا ضرار». وقيل: هما بمعنى واحد والجمع بينهما للتأكيد وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا أُسِّسَ التأسيس وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء شَفا الشفا الحرف والحد جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه الذي يحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط هارٍ الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط رِيبَةً شكا وحيرة.
سبب النزول:
هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزل قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بنى عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء هذه قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسس مسجد قباء: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.
وقد اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبنى مسجدا ونبعث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلى لنا فيه كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلى فيه أبو عامر الراهب

إذا قدم من الشام وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة، والليلة المطيرة، ونحب أن تصلى لنا فيه وتدعو بالبركة إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّى على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلّينا لكم فيه»
: فلما انصرف من تبوك وهم بالذهاب إلى مسجد الضرار نزلت هذه الآيات. فدعا النبي مالك بن الدخشم وغيره
فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وأحرقوه».
وقد تم ذلك، والذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر منافقا من الأوس والخزرج.
المعنى:
والذين اتخذوا مسجدا لأغراض ستأتى جزاؤهم معروف، إذ كان غرضهم بالبناء ما سجله القرآن عليهم وهو:
(أ) أنهم اتخذوه محاولين إيقاع الضرر بالمؤمنين (الذين بنى لهم رسول الله مسجد قباء قبل دخوله المدينة) وهؤلاء بنوا مسجدهم بجوارهم لإيقاع الضرر بهم والفتنة لهم.
(ب) واتخذوه للكفر وتقويته والاجتماع لتدبير ما يكرهه الله ورسوله. فكان عش الفتنة، وبيت النفاق، ويقول المنافق: صليت فيه وما صلى، والكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.
(ج) وبنوه للتفريق كذلك بين المؤمنين فإنهم كانوا يصلون في مسجد واحد، فأصبحوا متفرقين في مكانين.
(د) واتخذوه إرصادا وانتظارا لقدوم من حارب الله ورسوله حتى إذا قدم وجد المكان مهيأ ووجد أصحابه مستعدين لمحاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقد اتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد هو أبو عامر الراهب من الخزرج، وحكموا أنه كان رجلا تنصر في الجاهلية وعلم علم أهل الكتاب وكانت له مكانة في قومه- فلما قدم النبي المدينة، واجتمع المسلمون حوله وأصبح للإسلام كلمة- أكل الحسد قلب الرجل، وأعلن الحرب على النبي صلّى الله عليه وسلم، وأقسم ليحاربنه مع كل من يحاربه، وقد حاربه في أحد وحنين، ولما رأى نور الإسلام يرتفع ارتفاع

الشمس في الضحى فر إلى الشام وأرسل للمنافقين من قومه أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإنى سآتى لكل بجند قيصر لمحاربة محمد وأصحابه، ولقد صدق المنافقون قوله وبنوا المسجد للضرر وللكفر وللتفريق بين المؤمنين، ولانتظار أبى عامر الراهب ليحارب الله ورسوله.
وليقسمن بعد ذلك كله: ما أرادوا إلا الحسنى وأنهم بنوه للضرورة والحاجة التي تلم بالضعفاء، وأنهم بنوه رفقا بالمسلمين وتيسيرا لصلاة الجماعة على الضعفاء والمعذورين الذين يحبسهم المطر في الليلة المطيرة، كذبوا!! والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعائهم، منافقون في أعمالهم!! أما أنت أيها الرسول فلا تقم فيه أبدا على معنى لا تصل فيه أبدا، والنهى عن القيام يفسر بالنهى عن الصلاة كما روى عن ابن عباس، وانظر إلى التقييد بقوله أبدا وهو ظرف يستغرق الزمن المستقبل كله، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم يشمل المؤمنين كذلك.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى: والله لمسجد كان أساسه والغرض من بنائه من أول يوم بنى هو تقوى الله بإخلاص العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله والعمل على وحدة الإسلام، والتعاون على البر والتقوى لمسجد هذا وصفه أحق بالقيام فيه من غيره خصوصا مسجد هؤلاء المنافقين الذين بنوه لغرض حقير كشف الله سترهم فيه، وبين مقصودهم منه.
وهل هذا المسجد هو مسجد قباء أو مسجد الرسول في المدينة أو الكلام يشمل الاثنين؟ والله أعلم وإن كان الظاهر أن الكلام يشمل الاثنين لوجود الوصف فيهما، هذا المسجد فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف والصلاة مخلصين لله قانتين، يحبون أن يتطهروا من دنس المعاصي، ورجس العبودية، وقذارة النجاسة فالمتطهرون طهارة حسية ومعنوية.
والله يحب المتطهرين المبالغين في الطهارة القلبية والروحية، والجسدية والمعنوية وهؤلاء هم الكاملون في الإنسانية، أما محبة الله لهم فهذا شيء هو أعلم به إلا أنا نعرف من الحديث أن الله يحب من عباده الصالحين الموفقين إلى الخير
«لا يزال عبدى يتقرّب إلىّ بالنّوافل حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به وبصره الّذى يبصر به»
إلى أخر الحديث الشريف.

وقد ضرب الله المثل للمنافقين وأعمالهم المنهارة، وللمؤمنين وأعمالهم المؤسسة على الأساس المكين بطريق الإيجاز المحكم فقال ما معناه:
أفمن كان مؤمنا صادقا لا يقصد بعمله إلا وجه الله، ويتقى الله في كل عمل، كمن هو منافق مرتاب مراء كذاب لا يبغى بعمله إلا الشيطان والهوى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «١» ؟ فالمنافق يفضحه الله وينال جزاءه السيئ في الدنيا والآخرة، والمؤمن ينال جزاءه الحسن في الدنيا والآخرة.
أفمن أسس بنيانه على أساس التقوى، والإيمان والإخلاص، وهو أساس قوى متين نافع في الدنيا والآخرة، كمن أسس بنيانه على أساس ضعيف منهار! فالأول مثل المؤمن والثاني مثل للمنافق، وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق وما يتبعه من العمل المثمر النافع كالبناء المتين المؤسس الذي يقي صاحبه عوادي الزمان.
وأن النفاق وما يستلزم من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق وهو كالبناء الذي يبنى على الجرف المنهار لا ينفع صاحبه ولا يقيه سوءا، بل يضره ضررا بليغا حيث ألهاه عن العمل المثمر النافع.
والله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم ولغيرهم.
لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يملؤها شكا ونفاقا وحسرة وألما وخوفا من الفضيحة وهتك الستر، فهم دائما في ريبة وشك يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ «٢».
لا يزال كذلك ولا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم إلا أن تقطع قلوبهم قطعا، تتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة فهم في ريبة وشك والله عليم بخلقه حكيم في صنعه.
(٢) سورة التوبة آية ٦٤.