آيات من القرآن الكريم

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

هذين الأمرين، وهو إما التعذيب وإما التوبة. أما العفو عن الذنب من غير توبة فغير معتبر.
مسجد الضّرار (مسجد المنافقين) ومسجد التّقوى (مسجد قباء)
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
الإعراب:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا عطف على وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أو مبتدأ، وخبره: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ، أو خبره محذوف، أي وفيمن وصفنا أو ممن ذكرنا الذين اتّخذوا، أو كما رجح أبو حيان منصوب على الاختصاص، كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء ٤/ ١٦٢].
ضِراراً إما منصوب على المصدر أي مضارّة للمؤمنين، وإما مفعول به، وما بعده من المنصوبات عطف عليه. مِنْ قَبْلُ متعلق بحارب أو باتّخذوا، أي اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتّخلف، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك.
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فيه مضاف محذوف، تقديره: من تأسيس أول يوم لأن مِنْ

صفحة رقم 38

لا تدخل على ظروف الزمان. ويرى الكوفيون أنها تدخل على ظروف الزمان، فلا تحتاج إلى تقدير مضاف.
هارٍ صفة، أصله هائر، فقلب، كما قالوا: لاث في لائث، وشاك في شائك. وحذفت الياء كما حذفت في نحو قاض ورام في الرّفع والجّر.
أَفَمَنْ أَسَّسَ من: بمعنى الذي مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ.
البلاغة:
هارٍ فَانْهارَ بينهما جناس ناقص.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى استعارة مكنية، حيث شبهت التّقوى والرّضوان بأرض صلبة يقوم عليها البناء، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو التّأسيس. والاستفهام معناه التّقرير.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ مصدر أريد به اسم المفعول.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ أي ومنهم الذين اتّخذوا مسجد الضّرار. وهم اثنا عشر من المنافقين.
ضِراراً مضارّة لأهل مسجد قباء، والضّرار: إيقاع الضّرر بالغير ولا منفعة لك فيه، والضرر:
إيقاع الضّرر بالغير وفيه لك منفعة. وكلاهما ممنوع
للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار».
وَكُفْراً لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الرّاهب، ليكون معقلا له، يقدم فيه من يأتي من عنده، وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر، لقتال النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين يصلّون بقباء، بصلاة بعضهم فيه، أي الذين يجتمعون للصّلاة في مسجد قباء.
وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا مع العداوة. لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائه، وهو أبو عامر الراهب. إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببنائه. إِلَّا الْحُسْنى الفعلة أو الخصلة أو الإرادة الحسنى من الرّفق بالمسكين في المطر والحرّ والتّوسعة على المسلمين. إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم ذلك، وكانوا سألوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، فنزل: لا تَقُمْ.
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لا تصلّ فيه أبدا، فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة.
والتأسيس: وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي بني من

صفحة رقم 39

أول أيام وجوده، يوم حللت بدار الهجرة، وهو مسجد قباء، كما في البخاري. والتّقوى: ما يرضي الله ويبقي من سخطه. أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أجدر بأن تقوم فيه. فِيهِ رِجالٌ هم الأنصار.
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي يثيبهم.
عَلى تَقْوى مخافة من الله. وَرِضْوانٍ ورجاء رضوان منه وهذا مثال مسجد قباء.
عَلى شَفا طرف أو حرف أو حدّ. جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه. هارٍ مشرف على السقوط. فَانْهارَ بِهِ سقط مع بانيه. فِي نارِ جَهَنَّمَ وهذا تمثيل للبناء على غير التقوى بما يؤول إليه، وهو مثال مسجد الضّرار.
رِيبَةً شكّا وحيرة. تَقَطَّعَ تنفصل وتنفرق قلوبهم أجزاء، بأن يموتوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه. حَكِيمٌ في صنعه بهم.
سبب النزول:
نزول آية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا:
قال المفسّرون: إن بني عمرو بن عوف وهم من الأوس اتّخذوا مسجد قباء «١»، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وهم من الخزرج، وقالوا: نبي مسجدا، ونبعث إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلّي لنا فيه، كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشّام فأتوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلّة، والليلة المطيرة، ونحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة.
فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّي على سفر وحال شغل، فلو قدمنا لآتيناكم، وصلّينا لكم فيه».

(١)
لما هاجر النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، نزل أولا قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس. وقباء: قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الاثنين إلى الجمعة، وأسس مسجد قباء.

صفحة رقم 40

فلما انصرف النّبي صلى الله عليه وسلّم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه، وصلّوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضّرار.
فدعا النّبي صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدّخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السّكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه».
فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدّخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا.
وأما أبو عامر الراهب: فهو رجل من الخزرج، كان قد تنصّر، وكان له منزلة كبيرة في أهل الكتاب، فلما قدم النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرا، واجتمع عليه المسلمون، وعلت كلمة الإسلام، خرج فارّا إلى مكة، وألّب المشركين على المسلمين في وقعة أحد. ولما فرغ الناس من الموقعة فرّ إلى هرقل ملك الرّوم يستنصره، فوعده وحباه.
وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النّفاق: أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتّخذوا له معقلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.
والخلاصة: أن هذا المسجد بناه اثنا عشر رجلا من المنافقين، بمشورة أبي عامر الرّاهب، ولقي هوى في نفوس أبناء عمّ بني عمرو بن عوف، لينافسوهم على تأسيس مسجد قباء، ومضاهاتهم به، وليكون مقرّا لأبي عامر إذا قدم، ليكون إمامهم فيه.

صفحة رقم 41

سبب نزول: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا:
أخرج التّرمذي عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: فِيهِ رِجالٌ... قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم.
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عويم بن ساعدة، فقال: «ما هذا الطّهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال: يا رسول الله، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال: مقعدته، فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «هو هذا».
وقيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومعه المهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس،
فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أمؤمنون أنتم؟» فسكتوا، فأعادها، فقال عمر: إنهم مؤمنون، وأنا معهم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أترضون بالقضاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في الرّخاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصّلاة والسّلام: «أنتم مؤمنون، وربّ الكعبة» فجلس، ثم قال: «يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء، وعند الغائط؟»، فقالوا: يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين وطرائقهم المختلفة في النّفاق، قال:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً...

صفحة رقم 42

التفسير والبيان:
ومن المنافقين الذين ذكرناهم جماعة بنوا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج، لأسباب أربعة هي:
١- مضارّة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه النّبي صلى الله عليه وسلّم بمجرد وصوله إلى المدينة.
٢- الكفر بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام وبما جاء به، وللطعن عليه وعلى الإسلام، واتّخاذه مقرّا للكيد والتّآمر على المسلمين، فصار مركز الفتنة، وبيت النّفاق، ومأوى المنافقين، للتّهرّب من أداء الصّلاة. وهذا كفر، لأن الكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.
٣- التّفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلّون خلف النّبي صلى الله عليه وسلّم في مسجد واحد، فإذا صلّى فيه بعضهم، حدثت الفرقة، وبطلت الألفة، وتفرّقت الكلمة. لذا كان الأصل أن يصلّي المسلمون في مسجد واحد، ويكون تكثير المساجد لغير حاجة منافيا لأغراض الدّين وأهدافه.
٤- الإرصاد، أي التّرقب والانتظار لمجيء من حارب الله ورسوله إليه، ويتّخذه مقرّا له، ومكانا لقوم راصدين مستعدين للحرب معه، وهم المنافقون الذين بنوا هذا المسجد.
والمقصود بمن حارب الله ورسوله كما ذكر في سبب النزول: هو أبو عامر الراهب من الخزرج، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة،
وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق
، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وترهّب وطلب العلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاداه، لأنه زالت رياسته، وقال للرّسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين،

صفحة رقم 43

فلما انهزم مع هوازن، هرب إلى الشّام، ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات بقنّسرين (بلد في شمال سوريا) وحيدا. وقيل: كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب، فلما انهزموا خرج إلى الشّام.
فذهاب أبي عامر إلى هرقل كان إما بعد يوم أحد، أو بعد يوم حنين، أو بعد يوم الأحزاب (الخندق) بحسب ما دلّت عليه الرّوايات.
وليحلفن هؤلاء المنافقون: ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهي الرّفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أهل الضّعف والعجز، وفي أثناء المطر ليصدقهم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، وليصلّي معهم فيه، تغريرا لبقية المسلمين، والله تعالى يعلم أنهم لكاذبون في أيمانهم وادّعائهم، منافقون في أعمالهم، وقد أطلع رسوله بذلك، فمعنى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ..: أنه يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
وبما أنهم بنوه للضّرر والإساءة نهى الله تعالى بوحيه إلى جبريل أن يصلّي فيه والأمّة تبع له في ذلك، فقال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصلّي فيه أبدا، وقد يعبر عن الصّلاة بالقيام، يقال: فلان يقوم الليل، ومنه
الحديث الصحيح لدى البخاري: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».
ويلاحظ استعمال الظّرف أَبَداً الذي يستغرق الزمن المستقبل كله لاتّصاله بلا النافية، فيفيد العموم.
ثم حثّه على الصّلاة في مسجد قباء لأمرين: الأول- أنه بني على التّقوى، أي الذي أسس من أول يوم بنيانه على التّقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله، وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله، فقال:

صفحة رقم 44

العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والعمل على وحدة الإسلام، أولى وأحق من غيره بالصّلاة فيها أيها الرّسول.
والمراد به كما جاء في صحيح البخاري، وكما دلّ عليه السياق والقصة: مسجد قباء، لهذا جاء
في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة».
لكن
روى أحمد ومسلم والنسائي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم سئل عنه، فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة.
ولا مانع من إرادة المسجدين لأن كلّا منهما قد بني على التّقوى، من أول يوم بدئ ببنائه.
الثاني- إن في هذا المسجد رجالا يحبّون أن يتطهّروا طهارة معنوية: وهي التّطهر عن الذّنوب والمعاصي، وطهارة حسية للثوب والبدن بالوضوء والاغتسال، وبالماء بعد الحجر في الاستنجاء، وهذا النوع الأخير هو قول أكثر المفسّرين، والأولى إرادة نوعي التّطهّر.
والله يحبّ المطّهّرين، أي المبالغين في الطّهارة الرّوحية المعنويّة والجسديّة البدنيّة، وهؤلاء هم الكمّل بين النّاس. قال البيضاوي: فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله، وقيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها. والله يحبّ المطهّرين: يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحبّ حبيبه.
وقال في الكشّاف: محبّتهم للتّطهّر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهي له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم، ويحسن إليهم، كما يفعل المحبّ بمحبوبه «١».

(١) الكشّاف: ٢/ ٥٨

صفحة رقم 45

فمحبة الله عباده: معناها الرّضا والقبول والإدناء لأنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة صفاتنا، فحبّه غير حبّنا، وهو شيء يليق بكماله تعالى، كما جاء
في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به».
والحبّ في هذه الآية يشبه أيضا حبّ الله تعالى في تطهير آل بيت النبّوة في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٢٣].
ثم قارن الله تعالى بين أهداف بناء المسجدين فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ...
أي لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، أي على أساس متين نافع في الدّنيا والآخرة، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار، أي ساقط، وجرف: جانب الوادي الذي ينحفر بالماء، والمعنى: على طرف حفرة أو واد، أي أساس ضعيف منهار، مشرف على السقوط، فإذا أنهار فإنما ينهار في قعر جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين أي لا يصلح عمل المفسدين، ولا يوفقهم إلى الحق والعدل والسّداد والصّواب وما فيه صلاحهم ونجاتهم، قال الرّازي «١» : ولا نرى في العالم مثالا أجدر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال! وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم.
وقوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل: إن ذلك حقيقة، أي إنه

(١) تفسير الرّازي: ١٦/ ١٩٧

صفحة رقم 46

موضع من مواضع جهنم، وقيل: إنه مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه أنهار إليه وهوى فيه.
ثم أبان الله تعالى ما يجسّده إقامة المنافقين مسجد الضّرار من معان سيئة ثابتة راسخة على ممرّ التاريخ، فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ.. أي لا يزال بناؤهم هذا وهدمه سبب شكهم في الدّين، وتزايد نفاقهم لأنه يجسّد آثار النّفاق والكفر، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبّه، وأصبح وسمه لا يزول عن قلوبهم، فلا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا في حال تقطع قلوبهم أجزاء، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أي بموتهم، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة.
والمراد أن هذا البناء الذي فرحوا به مصدر استلهام الشّكوك في الدّين، ومظهر تجسيد الكفر والنّفاق الجاثم في نفوسهم، فحينما أمر النّبي صلى الله عليه وسلّم بهدمه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وازداد ارتيابهم في نبوّته، وعظم خوفهم، وارتابوا في أمرهم: هل سيتركون أو يقتلون؟ فكان ذلك البنيان نفسه ريبة، لكونه سببا للرّيبة، وظهرت سببيّته للرّيبة بتخريبه وهدمه.
والله عليم بأعمال خلقه، حكيم في مجازاتهم عنها من خير أو شرّ، ومن حكمته تبيان حال المنافقين وإظهار ما خفي من أمرهم، لمعرفة الحقائق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- من المنافقين جماعة أقاموا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء لمقاصد أربعة: محاولة الضّرار، والكفر بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وتفريق جماعة المؤمنين، واتّخاذه معقلا لمن عادى الله ورسوله.

صفحة رقم 47

والمقصود في الضّرار بالمسجد من أهله، وليس لذات المسجد ضرار.
٢- كانت أيمانهم على حسن النّيّة، وسلامة القصد كاذبة.
٣- قال المالكية: كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصّلاة فيه. ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول، فيبقى شاغرا، إلا إذا كانت البلدة كبيرة، وأهلها كثيرين، ولم يعد يكفيهم مسجد واحد، فيبنى حينئذ. ولا ينبغي أن يبنى في البلد الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه «١».
٤- قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلّى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن عمر بن الخطّاب في خلافته لم يأذن لمجمّع بن جارية أن يصلّي إماما في مسجد قباء لأنه كان إمام مسجد الضّرار، ثم أذن له لمّا تبيّن أنه كان جاهلا بما أضمر عليه المنافقون.
٥- إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره، فكلّ ما فيه ضرر يزال ويهدم، كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضّرر على الغير. والضابط: أن من أدخل على أخيه أو جاره ضررا منع، وهذا ما يسمّى حديثا عند القانونيين: نظرية التّعسّف في استعمال الحقّ.
وقد سبق فقهاء المالكية وغيرهم إلى تقرير هذه النّظرية.
٦- الكفر العملي: قال ابن العربي: لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النّبي صلى الله عليه وسلّم، كفروا بهذا الاعتقاد.
٧- دلّ قوله تعالى: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ على أنّ المقصد الأسمى من

(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٥٤

صفحة رقم 48

وجود الجماعة تأليف القلوب واتّحادهم على الطّاعة، حتى يأنسوا بالمخالطة، وتصفو القلوب من الأحقاد.
واستنبط مالك من هذه الآية: أنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء.
٨- دلّ قوله تعالى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، على أن الأفعال تختلف باختلاف المقصود والإرادة.
٩- تحريم الصّلاة في مسجد الضّرار لقوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً يعني مسجد الضّرار.
١٠- أحقيّة مسجد التّقوى بالصّلاة فيه، والتّقوى: هي الخصال التي تتّقى بها العقوبة.
١١- ترغيب الإسلام بالنّظافة المعنوية (السّلامة من الأحقاد وصفاء النّفس وصحّة الإيمان) والنظافة البدنيّة (بالوضوء والاغتسال وإزالة النّجاسة عن الثّوب والبدن والمكان) لأن الله تعالى في هذه الآية أثنى على من أحبّ الطّهارة وآثر النّظافة.
وللعلماء في إزالة النّجاسة ثلاثة أقوال:
الأول- أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلّى بثوب نجس، عالما كان أو ساهيا، وهو قول الشّافعي وأحمد، وروي عن مالك.
الثاني- إن كانت النّجاسة قدر الدّرهم أعاد الصّلاة. وقدر الدّرهم قياس على حلقة الدّبر. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
الثالث- إزالة النّجاسة من الثياب والأبدان سنّة وليس بفرض، وهو قول آخر لمالك وأصحابه.

صفحة رقم 49

قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله، لأنّ
النّبي صلى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري ومسلم- مرّ على قبرين، فقال: «إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنّميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله»
ولا يعذّب الإنسان إلا على ترك واجب.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أكثر عذاب القبر من البول».
واحتجّ الآخرون بخلع النّبي صلى الله عليه وسلّم نعليه في الصّلاة لما أعلمه جبريل عليه السّلام أنّ فيهما قذرا وأذى «١». ولما لم يعد ما صلّى دلّ على أنّ إزالة النّجاسة سنّة، وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت، طلبا للكمال.
١٢- دلّت آية: أَفَمَنْ أَسَّسَ.. على أن كلّ شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم، هو الذي يبقى، ويسعد به صاحبه، ويصعد إلى الله ويرفع إليه: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف ١٨/ ٤٦].
١٣- كان مسجد الضّرار سببا لريبة المنافقين، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به، ولما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلّم بتخريبه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وزاد ارتيابهم في نبوّته. وظلّ ذلك الرّيب في قلوبهم حتى الموت.

(١) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

صفحة رقم 50
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي إن المسجد المؤسس على التقوى، تقوى الله، بإخلاص