
التوهُّم» : فإذَا وَافَى الموقفُ أهْلَ السمواتِ السبعِ والأرضين السبع كسيت الشمسُ حرَّ عَشْرَ سنينَ، ثم أدْنيتْ من الخلائقِ قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسينِ، فَلاَ ظِلَّ في ذلك اليوم إلا ظلُّ عرشِ ربِّ العالمينَ، فكم بينَ مستظلِّ بظل العرشِ وبين واقفٍ لحرِّ الشمسِ قد أصْهَرَتْه واشتدَّ فيهَا كَرْبُه وقلقُه، فتوهَّمْ نفسَك في ذلكَ الموقفِ فإنك لا محالةَ واحدٌ منهم، انتهى، اللَّهُمَّ، عَامِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ في الدَّارَيْنِ، فَإنَّهُ لاَ حَوْلَ لَنَا وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ.
[سورة المطففين (٨٣) : آية ٧]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ... يعني: الكفارَ وكتابُهم يراد به الذي فيه تَحصيلُ أمرهم، وأفعالِهم، ويحتمل عندي أن يكونَ المعنَى وعِدَادُهُمْ وكِتَابُ كونِهم هو في سجينٍ أي: هنالِكَ كُتِبُوا في الأزلِ، واختُلِفَ في سِجِّينٍ ما هو؟ والجمهورُ أن سجيناً بناءُ مبالغة من السَّجْن، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة «١».
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٨ الى ٢٦]
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)
وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ تعظيمٌ لأمر هذا السِّجِّينِ وتعجيبٌ منه، ويحتملُ أنْ يكونَ تقريرَ اسْتِفْهامٍ، أي: هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي، وكِتابٌ مَرْقُومٌ على القول الأولِ: مرتفعٌ على خبر «إنَّ» وعلى القولِ الثاني مرتفعٌ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف تقديرُه: هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً ل سِجِّينٌ ما هو؟، ومَرْقُومٌ معناه: مكتوبٌ لهم بِشَرٍّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم أوجَبَ أنَّ مَا كَسَبُوا من الكفرِ والعُتُو قَدْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي: غطى عليها فهُمْ مع ذلك لا يُبْصِرُون رشداً، يقال:

رَانَتِ الخمرُ على قلبِ شاربِها، ورَانَ الغَشْيُ على قلبِ المريضِ، وكذلك الموتُ، / قال الحسنُ وقتادة: الرّينُ الذَّنبُ على الذنبِ حتى يموتَ القلب «١»، وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الرجُلَ إذا أذْنَبَ نُكِتَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ في قلبهِ، ثم كذلك حتَّى يَتَغطَّى فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ، قال الفخرُ «٢» : قال أبو معاذ النَّحْوي: الرّينُ سَوَادُ القلبِ من الذنوبِ، والطَّبْعُ أن يُطْبَعَ على القلبِ، وهو أشَدُّ من الرينِ، والإقْفَالُ أشدُّ من الطبعِ وهو أن يُقْفَلَ على القلبِ، انتهى، والضميرُ في قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ للكفارِ أي: هم محجوبونَ لا يَرَوْنَ ربَّهم، قال الشافعي: لما حَجَبَ اللَّهُ قوماً بالسَّخْطِ دَلَّ عَلى أن قوماً يرَوْنَهُ بالرِّضَى، قال المحاسبي- رحمه اللَّه- في كتابِ «توبيخ النفس» : وينبغِي للعبدِ المؤمنِ إذا رأى القسوةَ من قلبه أن يعلم أنها من الرّينِ في قلبه فيخافُ أن يكونَ اللَّهُ تعالى لمَّا حَجَبَ قلبَه عنه بالرّينِ والقسوةِ أنْ يحجبَه غَداً عن النظرِ إليه قال تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ إحداهُما تتلو الأخرى ليس بينهما معنًى ثالثٌ، فإنْ اعترضَ للمريدِ خَاطِرٌ من الشيطانِ ليقْتَطِعَه عن الخوفِ من اللَّه تعالى، حتى تحلَّ بهِ هاتانِ العقوبتانِ فَقَال إنما نَزَلَتَا في الكافرينَ فليقلْ فإنَّ اللَّهَ لم يؤَمِّنْ منهما كثيراً مِنَ المؤمنينَ، وقد حذَّر سبحانَه المؤمنينَ أن يُعَاقِبَهُم بما يُعَاقِبُ به الكافرين فقال تعالى:
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: ١٣١] إلى غير ذلكَ من الآيات، انتهى، ولما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى أمْرَ كتابِ الفجار، عَقَّبَ ذلكَ بذِكْرِ كِتَابِ ضدِّهِم ليبيِّنَ الفرقَ بين الصِّنْفَيْنِ، واخْتُلِفَ في المَوضِع المعروفِ ب عِلِّيِّينَ ما هو؟ فقال ابن عباس: السَّمَاءُ السَّابعَةُ تَحْتَ العَرْشِ «٣»، وَروي ذَلِكَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «٤»، وقال الضحاكُ: هو سِدْرَةُ المُنْتَهَى «٥»، وقال ابن عبّاس أيضا: عليون: الجنة «٦».
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٣١/ ٨٦).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٩٣) عن ابن عبّاس وعن كعب برقم: (٣٦٦٥٧)، و (٣٦٦٤٩)، وذكره البغوي (٤/ ٤٦٠)، وابن عطية (٥/ ٤٥٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٨٦) بنحوه.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٥٢).
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٩٤)، (٣٦٦٥٩)، وذكره البغوي (٤/ ٤٦٠)، وابن عطية (٥/ ٤٥٢)، والسيوطي في «الدر المنثور»، وعزاه لعبد بن حميد من طريق الأجلح عن الضحاك رضي الله عنه.
(٦) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٩٤)، (٣٦٦٥٨)، وذكره البغوي (٤/ ٤٦٠)، وابن عطية (٥/ ٤٥٢)، وابن كثير-