
سورة عبس
هى مكية، وآياتها ثنتان وأربعون، نزلت بعد سورة النجم.
ومناسبتها- لما قبلها- أنه ذكر هناك أنه منذر من يخشاها- وذكر هنا من ينفعه الإنذار.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
شرح المفردات
عبس: أي قطب وجهه من ضيق الصدر، وتولى: أي أعرض، أن جاءه الأعمى: أي لأجل أن جاءه، وما يدريك: أي أىّ شىء يعرّفك حال هذا الأعمى؟
يزكى: أي يتطهر بما يلقن من الشرائع، يذّكر: أي يتعظ، استغنى: أي بماله وقوته عن سماع القرآن، تصدى: أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه، يسعى أي يسرع، يخشى: أي يخاف من الغواية، تلهى: أي تتلهى وتتغافل.
المعنى الجملي
نزلت هذه السورة فى ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ابن خال خديجة، وكان أعمى وهو من المهاجرين الأولين. استخلفه ﷺ على المدينة يصلى بالناس مرارا، وكان يؤذن بعد بلال. صفحة رقم 38

وكان من حديثه أن أتى النبي ﷺ وهو بمكة ومعه صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم للإسلام، ويذكّرهم بأيام الله، ويحذرهم بطشه وجبروته، ويعدهم أحسن المثوبة إن أسلموا، وهو شديد الحرص على أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، لأنه يعلم أن سيسلم بإسلامهم خلق كثير، إذ بيدهم مقادة العرب.
فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئنى وعلمنى مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره الرسول قطعه لكلامه، وظهرت فى وجهه الكراهة، فعبس وأعرض عنه.
وقد عاتب الله نبيّه بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغى أن يكون باعثا على كراهة كلامه والإعراض عنه، لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم كما قال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» وقال: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً».
ولأنه كان ذكىّ الفؤاد إذا سمع الحكمة وعاها، فيتطهر بها من أو ضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكّر بها ويتعظ فتنفعه العظة فى مستأنف أيامه.
أما أولئك الأغنياء فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغى التصدي لهم، طمعا فى إقبالهم على الإسلام، ليتبعهم غيرهم.
وقوّة الإنسان إنما هى فى ذكاء لبّه، وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لا حت له أماراته، أما المال والنشب، والحشم والأعوان فهى عوار تجىء وترتحل، وتفرّ حينا ثم تنتقل.

والخلاصة- إنه سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذى العقل الذكي، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذى الجاه القوى، فإن الأول حىّ بطبعه والثاني غائب عن حسّه.
وكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن أم مكتوم ويقبل عليه ويتفقده، ويقول له إذا رآه: أهلا بمن عاتبنى فيه ربى، ويسأله هل لك حاجة؟
الإيضاح
(عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) أي قطب الرسول ﷺ وجهه وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه.
وفى التعبير عنه بالأعمى إشعار بعذره فى الإقدام على قطع كلامه ﷺ حين تشاغله بالقوم، وقد يكون ذلك لذكر العلة التي اقتضت الإعراض عنه، والتعبيس فى وجهه، فكأنه قيل: إنه بسبب عماه كان يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك أن تخصه بالغلظة.
وهذا كما تقول لرجل جاءه فقير فانتهره وآذاه: أتؤذي هذا المسكين الذي يستحق منك الشفقة ومزيد الحنان والعطف؟
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟) أي وأىّ شىء يعلمك حال هذا الأعمى؟ لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، فتزول عنه أو ضار الآثام، أو يتعظ فتنفعه ذكراك وموعظتك.
والخلاصة- إنك لا تدرى ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر، ولو دريت لما كان الذي كان.
وفى هذا إيماء إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم التزكى ولا التذكر.