آيات من القرآن الكريم

فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّىٰ
ﭑﭒ ﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵ ﭷﭸﭹ

المساواة في الإسلام
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
الإعراب:
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أَنْ جاءَهُ: في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن جاءه، فحذف اللام فاتصل الفعل به. ومنهم من جعله في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف، لكثرة حذفها معها، وهي وحرف الجر في موضع نصب بالفعل قبلها.
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فَتَنْفَعَهُ: بالنصب على جواب الترجي: (لعل) بالفاء بتقدير (أن). وبالرفع بالعطف على يَذَّكَّرُ.
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يَسْعى: حال من فاعل: جاء. وَهُوَ يَخْشى حال من فاعل: يسعى، وهو الأعمى.
البلاغة:
عَبَسَ وَتَوَلَّى.. ثم قال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى التفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار، وزيادة في العتاب، وتنبيها للرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى العناية بشأن الأعمى، كمن يشكو جانيا بطريق الغيبة، وهو حاضر، ثم يقبل على الجاني مواجها بالتوبيخ. وفي ذكر الأعمى إنكار أيضا لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالبا، لا التولي والعبوس.
يَذَّكَّرُ والذِّكْرى جناس اشتقاق.
عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى سجع مرصع.
تَصَدَّى تَلَهَّى بينهما طباق.

صفحة رقم 59

المفردات اللغوية:
عَبَسَ قطّب وجهه. وَتَوَلَّى أعرض. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى لأجل أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم، فقطعه عما هو مشغول به من محاولة هداية أشراف قريش إلى الإسلام. وقد أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والأعمى: هو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الزهري. وقد عاتب الله نبيه على عبوسه في وجه الأعمى، حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وأن النظر إلى المؤمن أولى وأصلح، وإن كان فقيرا، من النظر إلى غيره، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان فيه نوع من المصلحة أيضا «١».
وَما يُدْرِيكَ أي: أيّ شيء يعلمك ويعرّفك حال هذا الأعمى؟ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وبما يتعرف عليه من الشرائع، وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره. أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ، أصله يتذكر، فأدغم التاء في الذال. فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى العظة المسموعة منك.
اسْتَغْنى بالمال والجاه والقوة عن سماع القرآن. تَصَدَّى تقبل وتعرض، وقرئ:
تَصَدَّى وأصله: تتصدى. فأدغم التاء الثانية بالصاد. أَلَّا يَزَّكَّى يتطهر ويؤمن، أي ليس عليك بأس في ألا يتزكى بالإسلام، حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم، إن عليك إلا البلاغ. وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله، وهو الأعمى. تَلَهَّى تتشاغل، وأصله تتلهى، فحذفت التاء الأخرى.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
عَبَسَ:
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له:
أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا، فنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.
وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.

(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢١٣

صفحة رقم 60

التفسير والبيان:
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي قطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه، وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه، وهو عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، فأعرض عنه، فنزلت.
وعذر ابن أم مكتوم أنه لم يدر بتشاغل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟ أي وما يعلمك ويعرفك يا محمد لعل الأعمى يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك، أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ، فتنفعه الموعظة.
وفي هذا إيماء إلى أن غير الأعمى ممن تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم الهداية. وفيه تعظيم من الله سبحانه لابن أم مكتوم.
وكان هذا التصرف من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثابة ترك الاحتياط وترك الأفضل، فلم يكن ذلك ذنبا البتة، ولا مصادما لمبدأ عصمة الأنبياء، لصدور الفعل عن أمر تابع للجبلّة الإنسانية كالرضا والغضب والضحك والبكاء، والتي رفع عنها التكليف في شريعة الإسلام.
وبعد هذا الوصف المؤذن بالعتاب جاء العتاب صريحا في قوله تعالى:
١- أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي أما من استغنى بماله وثروته وقوته عما لديك من معارف القرآن والهداية الإلهية، وعن الإيمان والعلم، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك، وهو يظهر الاستغناء عنك والإعراض عما جئت به.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا بأس ولا شيء عليك في ألا يسلم ولا يهتدي، ولا يتطهر من الذنوب، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، فلا تهتم بأمر من كان مثل هؤلاء من الكفار.

صفحة رقم 61

٢- وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي وأما من أتى إليك مسرعا في طلب الهداية والإرشاد إلى الخير، والعظة بمواعظ الله، وهو يخاف الله تعالى، فأنت تتشاغل عنه وتعرض وتتغافل.
لذا أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ألا يخص بالإنذار أحدا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والغني والفقير، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم يهدي الله تعالى من يشاء إلى صراط مستقيم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الآية عتاب من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم، حتى لا تنكسر قلوب الفقراء، وليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني.
٢- بالرغم من أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر لأنه أبى إلا أن يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يعلّمه، فكان في هذا نوع جفاء منه، بالرغم من هذا عاتب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم لأن الأهم مقدم على المهم. ويستحق التأديب أيضا لأنه كان قد أسلم وتعلّم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين. أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا، وإسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم.
٣- عذر ابن أم مكتوم: أنه لم يكن عالما بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم.
٤- الآية دليل واضح على وجوب المساواة في الإسلام في شأن الإنذار وتبليغ الدعوة دون تمييز بين فقير وغني. ونظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام ٦/ ٥٢] وقوله سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ

صفحة رقم 62
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية