
عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن البيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع عليّ الحجارة من السماء مني ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن البيضاء» «١».
قال: فلمّا كان من الغد جئت رسول الله ﷺ وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء ما بكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابكم، ودنا من هذه الشجرة شجرة، قريبة من نبي الله فأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
بالتاء بصري الباقون بالياء، أَسْرى: جمع أسير مثل قتيل وقتلى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في قتل المشركين وأسرهم وقهرهم، أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ، وأثخنته معرفة بمعنى قلته معرفة.
قال قتادة هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف بأربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول الله ﷺ يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين.
قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلمّا كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فجعل الله نبيه والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وأن شاءوا فادوهم وإن شاؤوا رفقوا بهم.
تُرِيدُونَ أيها المؤمنين عَرَضَ الدُّنْيا بأخذكم الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ ثواب الْآخِرَةَ بقهركم المشركين ونصركم دين الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
.

لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية، قال ابن عباس كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي ﷺ حرام على الأنبياء والأمم كلهم كانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للنيران «١» وحرّم عليه أن يأخذوا منه قليلا أو كثيرا، وكان الله عز وجل كتب في أم الكتاب أن الغنائم والأسارى حلال لمحمد وأمته، فلمّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم، فأنزل الله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله تعالى أحل لكم الغنيمة.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يعذّب أحدا شهد بدر مع النبي ﷺ وقال: لولا كتاب سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وقال ابن جريج: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يضل قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ، وأنه لا يأخذ قوما فعلوا شيئا بجهالة لَمَسَّكُمْ لنالكم وأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ من الغنيمة والفداء قبل أن يؤمروا به عَذابٌ عَظِيمٌ.
روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: قال رسول الله ﷺ لأصحابه في أسارى بدر: «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم»، وكانت الأسارى سبعون. فقالوا: بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم، قال عبيدة طلبوا الخيرتين كليهما فقتل منهم يوم أحد سبعون
، قال ابن إسحاق وابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلّا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، وقال لرسول الله: ما لنا والغنائم! نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله، وأشار على رسول الله بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ
فقال الله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
همان بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا» ذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا.
عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ نبي قبلي من الأنبياء وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكان النبي ﷺ يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والإنس، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبق نبي إلا قد أعطي سؤله وأخّرت
.

شفاعتي لأمتي» [٢٣٩].
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى
نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسيرا يومئذ، وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته التوبة يوم بدر، وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي ﷺ أن يحسب العشرون أوقية من فدائه فأبى، وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك، وكلّفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس: يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أوّل خروجك من مكة، فقلت لها:
إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعني بنيه» فقال له العباس: وما يدريك؟
قال: «أخبرني ربي» فقال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله الا الله وأنك عبده ورسوله، ولم يطلع عليه أحد إلا الله فذلك قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء [٢٤٠] «١».
وقرأ أبو محمد وأبو جعفر: من الأسارى وهما لغتان إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إيمانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم، قال العباس: فأبدلني الله مكانها عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير، فأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين الأوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي،
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكنا ولا حرم سائلا حتى فرّقه، فأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ، فكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجوا المغفرة.
وَإِنْ يُرِيدُوا يعني الأسرى خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا رسول الله ﷺ والمهاجرين رضي الله عنهم، أي أسكنوهم منازلهم وَنَصَرُوا على أعدائهم، وهم الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دون أقربائهم من الكفار، وقال ابن عباس: هذا في الميراث، كانوا يتوارثون بالهجرة، وجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث لأنه لم يهاجر، ولم ينصر، وكانوا يعملون بذلك، حتى أنزل الله عز وجل: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
.

أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فنسخت هذا وصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملّتين.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الميراث حَتَّى يُهاجِرُوا وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بكسر الواو، والباقون بالفتح وهما واحد، وقال الكسائي: الولاية بالنصب: الفتح، والولاية بالكسر: الإمارة.
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ لأنهم مسلمون إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة.
قال ابن عباس: نزلت في مواريث مشركي أهل العهد وقال السدّي: قالوا نورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية، وقال ابن زيد: كان المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان. وإن كانا أخوين مؤمنين، وذلك لأن هذا الدين بهذا البلد كان قليلا، حتى كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا بالأرحام حيثما كانوا،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح إنّما هي الشهادة» [٢٤١].
وقال قتادة: كان الرجل ينزل بين المسلمين والمشركين فيقول إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى، الله عليهم ذلك، وأنزل فيه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «١» فلا تراءى نار مسلم و] نار [مشرك إلا صاحب جزية مقرّا بالخراج «٢».
إِلَّا تَفْعَلُوهُ قال عبد الرحمن بن زيد: إلّا تتركهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، وقال ابن عباس: إلّا تأخذوه في الميراث ما أمرتكم به، وقال ابن جريج: إلّا تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق: جعل الله سبحانه المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إِلَّا تَفْعَلُوهُ، هو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن.
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قال ابن كيسان حققوا ايمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين الله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الذي عنده وهو اللوح المحفوظ، وقيل: كتاب الله في قسمته التي قسمها وبيّنها في القرآن في سورة النساء.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وقال قتادة: كان الاعرابي لا يرث المهاجر فأنزل الله هذه الآية، وقال ابن الزبير: كان الرجل يعاقد الرجل ويقول: ترثني وأرثك فنزلت هذه الآية.
. (٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٧٢ [.....]
.

محتوى الجزء الرابع من كتاب تفسير الثعلبي
سورة المائدة ٥ سورة الأنعام ١٣١ سورة الأعراف ٢١٤ سورة الأنفال ٣٢٤

[الجزء الخامس]
سورة التوبةمدنية، وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون حرفا، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية
هشام بن عامر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّه ما نزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا خلا سورة براءة، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فإنّهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول: يا محمد استوص بنسبة الله خيرا» «١».
يزيد الرقاشي عن ابن عباس. قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم على أن [عمدتم] إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموها في السبع الطوال؟.
قال عثمان رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وكانت قصتها شبيهة بقصتها [فظننت أنها منها]، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال «٢».
وسمعت أبا القاسم الحبيبي، سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجزي بهراة يقول:
سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي، سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سئل سفيان بن عيينة: لم لم يكن في صدر براءة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٧٠.