آيات من القرآن الكريم

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ).

صفحة رقم 3191

أي ما ساغ لنبي، أمره الله تعالى بالجهاد لجعل كلمة الله أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حتى يثقلهم بالجراح بحيث لَا يستطيعون أن يقفوا للحرب مرة ثانية، فالإثخان المبالغة في الجراح، حتى يثقلوا عن استئناف القتال، وتكون المعركة شافية لَا تبقى من باقية، وذلك حتى لَا يتجمعوا لكم من بعد في وقت قريب، كما فعلوا في أُحُد، وحتى لَا تُثقلوا أنتم بإطعام الأسرى، وقد يكون ذلك عليكم عسيرا، وإطعامهم لَا بد منه، ولذا يقول تعالى في أوصاف المؤمنين:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، ولكي يبد باب الخديعة والنفاق، كما حدث من بعض الأسرى.
لهذا كان النفي الذي يتضمن نهيا مؤكدا، عن أن يكون للنبي - ﷺ - أسرى، والآية كما تضمنت النهي عن أخذ أسرى قبل أن يثخن في الأرض، ويُثقل العدو حتى لَا يتحرك إليه عن قريب، لما نهى عن ذلك نهى عن أخذ الفدية، في حال عدم الإثقال؛ ولذلك قال تعالى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يرُيدُ الآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا بالمال تأخذونه، وقد برروا أخذ الفداء بأن يكون قوة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى يريد الآخرة، أي يريد ما يكون نصرا غالبا مؤزرا يؤدي إلى إرضائه سبحانه.
وقصة إشارة النبي - ﷺ - بالفداء كانت بشورى أشار بها بعض كبار المؤمنين الصديقين، وإليك الخبر كما جاءت به كتب السنة والسيرة في أصح أخبارها.
لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس فقال رسول الله - ﷺ -: " ما ترون في هؤلاء الأسرى "، فقال أبو بكر: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك؛ قدِّمهم فاضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم.
فدخل رسول الله - ﷺ -، ولم يرد عليهم مسغيا، ثم خرج رسول الله - ﷺ - وقال: " إن الله ليلين قلوب رجال منه حتى يكون ألين من اللبن ويشدد قلوب

صفحة رقم 3192

رجال حتى تكون أشد من الحجارة، ومثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رحِيم)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَهُمْ عِبَادُكَ وَإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإَِّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
اختار النبي - ﷺ - أخذ الفداء، لأنه أرفق، ولأنه رأى فيه تقوية للمؤمنين، بالمال يأخذه منهم، وتقوية للمؤمنين بتعليم الأميين من الصحابة إذ كان من يقرأ ويكتب من الأسرى وليس معه مال، تكون فديته بتعليم بعض المؤمنين، ولقد مَنَّ على العاجزين عن الأمرين ممن رجا فيه خيرا.
نزلت هذه المعاتبة بعد ذلك، فبكى النبي - ﷺ -، وبكى معه صاحبه في الغار، وصدِّيق هذه الأمة، وقالوا: " إن القرآن نزل برأي عمر " (١).
ونحن نرى أن القرآن نزل برأي سعد بن معاذ، وروي أنه وافق سعدا الفاروق عمر، وعبد الله بن رواحة؛ لأن العتاب ابتداء ما كان متجها إلى أخذ الفداء، إنما كان متجها ابتداء إلى أخذ الأسرى قبل أن يثخن في الأرض، أما الفداء فلا لوم فيه، وقد جاء به القرآن في نظام الأسرى، فقال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
وهنا يسأل سائل لماذا لم يعلم الله رسوله الحق قبل أن يقع في الخطأ بدل أن يتركه يخطئ، ثم يعتب عليه والجواب عن ذلك أن حكمة الله تعالى في أقواله وأفعاله بالغة، فإن في ذلك تعليم لنا ومنع لغرورنا، إن هذا يبين أن هذا النبي
________
(١) البداية والنهاية: ج ٤، ص ١٠٤، وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسلم: الجهاد والسير - الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (١٧٦٣).

صفحة رقم 3193

المختار المصطفى إذا تُرك في أمر قد يقع في الخطأ والوحي ينزل، أو تعرض للخطأ، وإن كل إنسان عُرضة للخطأ، وإن العقل يعجز عن إدراك الحقائق كاملة، وبيان فساد حكم الطغاة الذين ينفردون بالحكم، ويحسبون أنهم لَا يخطئون، وبجوارهم فئة المنافقين الضالين المضلين الذين يأكلون السحت مما يتساقط من أموالهم التي هي سحت كلها، إن هذا رسول الله وسيد الخلق المصطفى إذا ترك من غير وحي في أمر تشريعي، كان عرضة للخطأ وقد أخطأ فكيف بكم أيها الطغاة الذين قمتم للشر وقام بنيانكم على الشر.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي أنه هو العزيز الذي أعطاكم العزة والرفعة في هذه، وجعل لكم قدرة على الأسر بعد أن كنتم قليلين مغلوبين يتخطفكم الناس في الأرض، وقد فعل ذلك بمقتضى حكمته.
ثم بين سبحانه أنهم معفوون من خطئهم، فقال تعالت كلماته:

صفحة رقم 3194
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية