آيات من القرآن الكريم

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ
أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين. وقيل: كان فيهم قلة، فلما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد، والضعف:
ضعف البدن، لا ضعف القلب.
قال بعض الصحابة- رضي الله عنهم-: لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار، وبقي العشر. ولذلك قال تعالى هنا: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، أي: بالنصر والمعونة، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده؟.
الإشارة: ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم، الذي هو الجهاد الأكبر، وإنما كان أكبر لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله، بخلاف النفس فإنها جاء تحت الرماية خفية عدو حبيب، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها، ويهونوا لهم شأنها فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت، وسهل علاجها، وإذا خِفت منها، وسوَّفت لها، طالت عليك وملكتك. ولا بد في جهادها من شيخ يريك مساوئها، ويعينك بهمته على قتلها، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها، وهي المعرفة بسيدها وخالقها. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على أخذ الفداء من الأسارى، فقال:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى يقبضها حَتَّى يُثْخِنَ أي: يبالغ فِي الْأَرْضِ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله. تُرِيدُونَ بقبض الأسارى عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء منهم، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي: يريد لكم ثواب الآخرة، الذي يدوم ويبقى، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه، وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه، حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها، كما أمر بالإثخان، ومَنَعَ مِنْ أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخيَّر بينه وبين المنِّ لما تحولت الحال، وصارت الغلبة للمؤمنين.
رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أُتِيَ يوم بدر بسَبْعِينَ أسِيراً، فيهم العَبَّاس وعَقيلُ بن أَبي طَالِبٍ. فاستأْذن فِيهِمْ فقال أبو بكر رضى الله عنه: قَومُكَ وأهلُك، اسْتَبِقهِمْ، لعلَّ الله يَتُوب عَلَيْهِمْ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أصحابك. وقال عمر

صفحة رقم 347

رضى الله عنه: اضْربْ أعْنَاقَهُمْ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر، وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ، فمكِّني من فُلاَن- لنَسِيبٍ لَهُ- ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ، فلم يَهْو ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «إنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ من كُلّ لين، وإن الله ليُشَدِّدُ قُلوب رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ من الحِجَارَةِ، وإن مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم، قال:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١»
، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح، قال: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «٢». فخيَّر أصحابه، فأخذوا الفداء، فنزلت، فدخل عمر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإذا هو وأبو بكر يَبْكِيانِ، فقال: يا رسول الله: أخْبِرْنيِ، فَإنْ أجد بُكاء بَكَيْتُ، وإلا تَبَاكيْتُ؟ فقال: «أبكِي على أصْحَابِكَ في أخْذِهُمُ الفداء، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدْنَى مِنْ هذِهِ الشَّجَرة» «٣» لِشَجَرَة قَرِيبَةٍ.
والآية دليل على أن الأنبياء- عليهم السلام- يجتهدون، وأنه قد يكون الخطأ، ولكن لا يقرون عليه. قاله البيضاوي. قال القشيري: أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزاً لوجوب العصمة، ولكن لو قتلهم كان أَوْلى. هـ. وقال ابن عطية: إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم، لا على الفداء لأن الله تعالى قد كان خيَّرهم، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين، كما تقدم في سورة آل عمران «٤». ثم قال:
والنبي عليه الصلاة والسلام خارج عن ذلك الاستبقاء. انظر تمامه في الحاشية.
فإن قلتَ: إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم، وهم لم يرتكبوا محظوراً؟ فالجواب: أن العتاب تابع لعلو المقام، فالخواص يُعاتبون على المباح، إن كان فعله مرجوحاً، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم في أمر دنيوي، وهو الفداء، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه، ويدل عليه قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وهذا إنما كان في بعضهم، وجُلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى في تمام عتابهم: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي: لولا حكم الله سبق إثباته فى اللوح المحفوظ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده، أو أنه سيحل لكم الغنائم، أو ما سبق في الأزل من العفو عنكم، لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء أو من الأسارى، عَذابٌ عَظِيمٌ. روى أنه عليه الصلاة والسلام قال، حين نزلت:
«لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان.

(١) الآية ٣٦ من سورة إبراهيم.
(٢) الآية ٢٦ من سورة نوح.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٣٨٣) والترمذي ببعض الاختصار فى (تفسير سورة الأنفال) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي فى (المغازي، ٣/ ٢١) وكذلك أخرجه البيهقي فى الدلائل (٣/ ١٣٨) كلهم عن ابن مسعود. وأخرجه بنحوه مسلم فى (الجهاد- باب الإمداد بالملائكة) من حديث ابن عباس عن سيدنا عمر- رضى الله عن الجميع.
(٤) عند تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) الآية ١٦٥.

صفحة رقم 348
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي
تحقيق
أحمد عبد الله القرشي رسلان
الناشر
الدكتور حسن عباس زكي - القاهرة
سنة النشر
1419
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية