آيات من القرآن الكريم

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ

خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً
قَالَ: فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: الْآنَ عَلِمَ اللَّه أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَهُ بِضَعْفِهِمْ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ أَجَابُوا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ حُدُوثِ الشَّيْءِ لَا يَعْلَمُهُ حَاصِلًا وَاقِعًا، بَلْ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ، أَمَّا عِنْدَ حدوثه ووقوعه فإن يَعْلَمُهُ حَادِثًا وَاقِعًا، فَقَوْلُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً معنا: أَنَّ الْآنَ حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهِ وَحُصُولِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ أَوْ سَيَحْدُثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً بِفَتْحِ الضَّادِ وَفِي الرَّوْمِ مِثْلَهُ، وَالْبَاقُونَ فِيهِمَا بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ، الضَّعْفُ وَالضُّعْفُ كَالْمَكْثِ وَالْمُكْثِ. وَخَالَفَ حَفْصٌ عَاصِمًا فِي هَذَا الْحَرْفِ وَقَرَأَهُمَا بِالضَّمِّ وَقَالَ: مَا خَالَفْتُ عَاصِمًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَرْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِي اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ مُكَلَّفٍ وَقَفَ بِإِزَاءِ مُشْرِكَيْنِ، عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا فَالْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ مَا دَامَ مَعَهُ سِلَاحٌ يُقَاتِلُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِلَاحٌ فَلَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ، وَإِنْ قَاتَلَهُ ثَلَاثَةٌ حَلَّتْ لَهُ الْهَزِيمَةُ وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» أَنَّهُ وَقَفَ جَيْشُ مُؤْتَةَ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَأُمَرَاؤُهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ عَبْدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَةَ فِي مُقَابَلَةِ مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ وَهُمْ لَخْمٌ وَجُذَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا تقع الغلبة إلا بإذن اللَّه. والإذن هاهنا هُوَ الْإِرَادَةُ.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قوله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَالِ: ٦٥] فَبَيَّنَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِشْرِينَ لَوْ صَبَرُوا وَوَقَفُوا فَإِنَّ نُصْرَتِي مَعَهُمْ وَتَوْفِيقِي مُقَارِنٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَا صَارَ مَنْسُوخًا بَلْ هُوَ ثَابِتٌ كَمَا كَانَ، فَإِنَّ الْعِشْرِينَ إِنْ قَدَرُوا عَلَى مُصَابَرَةِ الْمِائَتَيْنِ بَقِيَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مصابرتهم فالحكم المذكور هاهنا زائل.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
[في قوله تعالى مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْكَامِ الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عمر تَكُونَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِالتَّاءِ فَعَلَى لَفْظِ الْأَسْرَى، لِأَنَّ الْأَسْرَى وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّذْكِيرَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَقَدِّمٌ، وَالْأَسْرَى مُذَكَّرُونَ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِذَا انْفَرَدَ

صفحة رقم 507

أَوْجَبَ تَذْكِيرَ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ جَاءَ الرِّجَالُ وَحَضَرَ قَبِيلَتُكَ وَحَضَرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَانَ التَّذْكِيرُ أَوْلَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرئ للنبي صَلَّى الله عليه وو سلّم على التعريف وأُسارى ويُثْخِنَ بِالتَّشْدِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَبْعِينَ أَسِيرًا فِيهِمُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ فِيهِمْ فَقَالَ: قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تُقَوِّي بِهَا أَصْحَابَكَ، فَقَامَ عُمَرُ وَقَالَ: كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ فَقَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَإِنَّ اللَّه أَغْنَاكَ عَنِ الْفِدَاءِ. فَمَكِّنْ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ وَحَمْزَةَ مِنَ الْعَبَّاسِ وَمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ يُنْسَبُ لَهُ فَنَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّه لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦] وَمَثَلُ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْمَائِدَةِ: ١١٨] وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] وَمَثَلُ مُوسَى حَيْثُ قَالَ:
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يُونُسَ: ٨٨] وَمَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ.
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ يَا أَبَا حَفْصٍ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا كَنَّاهُ، تَأْمُرُنِي أَنْ أَقْتُلَ الْعَبَّاسَ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: وَيْلٌ لِعُمَرَ ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ رَوَاحَةَ أَشَارَ بِأَنْ تُضْرَمَ عَلَيْهِمْ نَارٌ كَثِيرَةُ الْحَطَبِ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ قَطَعْتَ رَحِمَكَ.
وَرُوِيَ/ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُخْرِجُوا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ بِضَرْبِ الْعُنُقِ»
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ خَوْفِي. ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدُ: «إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ»
وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقَوْمِ: «إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ» فَقَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَاسْتُشْهِدُوا بِأُحُدٍ.
وَكَانَ فِدَاءُ الْأُسَارَى عِشْرِينَ أُوقِيَّةً وَفِدَاءُ الْعَبَّاسِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَانَ فِدَاؤُهُمْ مِائَةَ أُوقِيَّةٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّةُ دَنَانِيرَ.
وروي أنهم أَخَذُوا الْفِدَاءَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَخْبِرْنِي فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وإن لم أجد تباكيت، فقال أبكي عَلَى أَصْحَابِكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ- وَلَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَمْنُوعٌ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ حَصَلَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قوله تعالى بعد هذه الآية:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [الْأَنْفَالِ: ٧٠] الثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَتَلَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، بَلْ أَسَرَهُمْ، فَكَانَ الذَّنْبُ لَازِمًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَمِيعَ قَوْمِهِ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَالِ: ١٢] وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْتُلُوا بَلْ أَسَرُوا كَانَ الْأَسْرُ مَعْصِيَةً.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَكَانَ أَخْذُ الْفِدَاءِ مَعْصِيَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ

صفحة رقم 508

تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَرَضِ الدنيا هاهنا هُوَ أَخْذُ الْفِدَاءِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَخَذْتُمْ ذَلِكَ الْفِدَاءُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ بَكَيَا، وَصَرَّحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا بَكَى لِأَجْلِ أَنَّهُ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَذَابَ قَرُبَ نُزُولُهُ وَلَوْ نَزَلَ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ»
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الذَّنْبِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ وُجُوهِ تَمَسُّكِ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ أَوَّلًا: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْأَسْرُ مَشْرُوعًا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ سَبْقِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْخَانِ هُوَ الْقَتْلُ وَالتَّخْوِيفُ الشَّدِيدُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ خَلْقًا عَظِيمًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ قَتْلُ جَمِيعِ النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ الْقَتْلِ الْكَثِيرِ أَسَرُوا جَمَاعَةً، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْدَ الْإِثْخَانِ يَجُوزُ الْأَسْرُ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْرَ كَانَ جَائِزًا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْرَ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً؟ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [مُحَمَّدٍ: ٤].
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى مَا شَرَحْتُمُوهُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَسْرَ كَانَ جَائِزًا وَالْإِتْيَانُ بِالْجَائِزِ الْمَشْرُوعِ لَا يَلِيقُ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، فَلِمَ ذَكَرَ اللَّه بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ؟ فَنَقُولُ: الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِضَابِطٍ مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِكْثَارُ الْقَتْلِ بِحَيْثُ يُوجِبُ وُقُوعَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَأَنْ لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى مُحَارَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبُلُوغُ الْقَتْلِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ مُفَوَّضًا إِلَى الِاجْتِهَادِ، فَلَعَلَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَفَى فِي حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ هَذَا خَطَأً وَاقِعًا فِي الِاجْتِهَادِ فِي صُورَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. فَحَسُنَ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَى ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ لِهَذَا السَّبَبِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ ذَنْبًا وَلَا مَعْصِيَةً.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ثَانِيًا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِنَّمَا كَانَ مَعَ الصَّحَابَةِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ مَأْمُورًا أَنْ يُبَاشِرَ قَتْلَ الْكُفَّارِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِطَابُ مُخْتَصًّا بِالصَّحَابَةِ، فَهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْقَتْلَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْأَسْرِ، كَانَ الذَّنْبُ صَادِرًا مِنْهُمْ لَا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنُقِلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا هَزَمُوا الْكُفَّارَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمْعًا عَظِيمًا وَالْكُفَّارُ فَرُّوا ذَهَبَ الصَّحَابَةُ خَلْفَهُمْ وَتَبَاعَدُوا عَنِ الرَّسُولِ وَأَسَرُوا أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّسُولُ بِإِقْدَامِهِمْ عَلَى الْأَسْرِ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِ الصَّحَابَةِ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَسَرَ وَمَا أَمَرَ بِالْأَسْرِ، فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ.
فَإِنْ قَالُوا: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا حَمَلُوا الْأُسَارَى إِلَى حَضْرَتِهِ فَلِمَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ.

صفحة رقم 509

قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَاضْرِبُوا تَكْلِيفٌ مُخْتَصُّ بِحَالَةِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْكُفَّارِ بِالْحَرْبِ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَهَذَا التَّكْلِيفُ مَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَشَارَ/ الصَّحَابَةَ فِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُعَامِلُهُمْ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ، لَكَانَ مَعَ قِيَامِ النَّصِّ الْقَاطِعِ تَارِكًا لِحُكْمِهِ وَطَالِبًا ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، وَثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ وَاجِبًا حَالَ الْمُحَارَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَدِيمَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا وَرَاءَ وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَافٍ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ ثَالِثًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَأَخْذُ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ.
فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فَنَقُولُ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُصُولُ الْعِتَابِ عَلَى الْأَسْرِ لِغَرَضِ أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا. الثَّانِي: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ الْأَوْلَى: أَنْ نَأْخُذَ الْفِدَاءَ لِتَقْوَى الْعَسْكَرُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا طَلَبُوا ذَلِكَ الْفِدَاءَ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنْ طَلَبَ الْفِدَاءَ لِمَحْضِ عَرَضِ الدُّنْيَا وَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالثَّانِي. وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ بِعَيْنِهِمَا هُمَا الْجَوَابَانِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ رَابِعًا: أَنَّ بُكَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمَّا خَالَفَ أَمْرَ اللَّه فِي الْقَتْلِ، وَاشْتَغَلَ بِالْأَسْرِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَبَكَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْتَهَدَ فِي أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي حَصَلَ هَلْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْإِثْخَانِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّه بِهِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ وَوَقَعَ الْخَطَأُ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَأَقْدَمَ عَلَى الْبُكَاءِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ خَامِسًا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّه بِالْقَتْلِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى الْأَسْرِ حَالَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِاشْتِغَالُ بِالْقَتْلِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ حَسُنَ إِدْخَالُ لَفْظَةِ كَانَ على لفظة تكون فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ مَا كانَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالتَّنْزِيهُ، أَيْ مَا يَجِبُ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ للَّه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ لَكَ، وَأَمَّا/ مَنْ قَرَأَ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَا كَانَ يَنْبَغِي حُصُولُهُ لِهَذَا النَّبِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: (أَسْرَى) جَمْعٌ، وَ (أُسَارَى) جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ (أَسَارَى) وَهِيَ جَائِزَةٌ كَمَا نَقَلْنَا عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِهِ وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْإِثْخَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ، يُقَالُ: قَدْ أَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا

صفحة رقم 510

اشْتَدَّ قُوَّةُ الْمَرَضِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَثْخَنَهُ الْجِرَاحُ، وَالثَّخَانَةُ الْغِلْظَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ غَلِيظٍ، فَهُوَ ثَخِينٌ. فَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ حَتَّى يَقْوَى وَيَشْتَدَّ وَيَغْلِبَ وَيُبَالِغَ وَيَقْهَرَ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ:
أَنْ يُبَالِغَ فِي قَتْلِ أَعْدَائِهِ. قَالُوا وَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ إِنَّمَا تَقْوَى وَتَشْتَدُّ بِالْقَتْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلِ تُوجِبُ قُوَّةَ الرُّعْبِ وَشِدَّةَ الْمَهَابَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْجَرَاءَةِ، وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْدَ حُصُولِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْأَسْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَالْمُرَادُ الْفِدَاءُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا عَرَضًا، لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا دَوَامَ، فَكَأَنَّهُ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ، وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمُتَكَلِّمُونَ الْأَعْرَاضَ أَعْرَاضًا، لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهَا كَثَبَاتِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّهَا تَطْرَأُ عَلَى الْأَجْسَامِ، وَتَزُولُ عَنْهَا مَعَ كَوْنِ الْأَجْسَامِ بَاقِيَةً، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ وَتَزُولُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ الْمَصُونَةِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالزَّوَالِ. وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا كَائِنَ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا واللَّه يُرِيدُهُ لِأَنَّ هَذَا الْأَسْرَ وَقَعَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَنَصَّ اللَّه عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ بَلْ يُرِيدُ مِنْهُمْ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الطَّاعَةُ دُونَ مَا يَكُونُ فِيهِ عِصْيَانٌ.
وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَسْرُ مِنْهُمْ طَاعَةً، وَعَمَلًا جَائِزًا مَأْذُونًا.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِرَادَةِ كَوْنِ هَذَا الْأَسْرِ طَاعَةً، نَفِيُ كَوْنِهِ مُرَادَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الشَّيْءُ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ مَكْرُوهٌ بِالذَّاتِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ إِنْ طَلَبْتُمُ الْآخِرَةَ لَمْ يَغْلِبْكُمْ عَدُوُّكُمْ لِأَنَّ اللَّه عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ/ وَلَا يُغْلَبُ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَقَوِيَ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأُسَارَى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [مُحَمَّدٍ: ٤] وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يَزِيدُ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ متوافقتان، فإن كلتاهما يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِثْخَانِ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَخْذُ الْفِدَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ أَقَاوِيلُ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَبَاحِثِ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّه سَبَقَ يَا مُحَمَّدُ بِحِلِّ الْغَنَائِمِ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ، لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ. وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ تَحْلِيلَ الْغَنَائِمِ وَالْفِدَاءَ هَلْ كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ فَإِنْ كَانَ التَّحْلِيلُ وَالْإِذْنُ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ امْتَنَعَ إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَحْصُلِ الْعِقَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِذْنَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حراماً

صفحة رقم 511

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّهُ سَيَحْكُمُ بِحِلِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ سَيَصِيرُ حَلَالًا بَعْدَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَخْفِيفَ الْعِقَابِ.
قُلْنَا: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِنْزَالُ الْعِقَابِ بِسَبَبِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّخْوِيفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِقَابِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنِّي لَا أُعَذِّبُ إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ لَعَذَّبْتُكُمْ فِيمَا صَنَعْتُمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا نَهَاهُمْ عَنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّا نَقُولُ حَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَا وُجِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُوجِبُ حُرْمَةَ ذَلِكَ الْفِدَاءِ، فَهَلْ حَصَلَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يَقْتَضِي حُرْمَتَهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا حَصَلَ، فَيَكُونُ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ تِلْكَ الْحُرْمَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَحِينَئِذٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ حَاصِلًا، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَنْعُ حَاصِلًا كَانَ الْإِذْنُ حَاصِلًا، وَإِذَا كَانَ الْإِذْنُ حَاصِلًا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَى فِعْلِهِ؟
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ قَدْ سَبَقَ حُكْمُ اللَّه بِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا مُنِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالزِّنَا/ وَالْخَمْرِ وَمَا هُدِّدُوا بِتَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِحِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّكَالِيفِ عَنْهُمْ وَلَا يَقُولُهُ عاقل. وأيضاً فلو صاروا كَذَلِكَ، فَكَيْفَ آخَذَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِعَيْنِهَا، وَكَيْفَ وَجَّهَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعِقَابَ الْقَوِيَّ؟
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّه سَبَقَ فِي أَنَّ مَنْ أَتَى ذَنْبًا بِجَهَالَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ لَمَسَّهُمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: فَنَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ اللَّه عَنِ الْكَبَائِرِ. فَقَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ مَعْنَاهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْأَزَلِ بِالْعَفْوِ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: ٥٤] وَمِنْ
قَوْلِهِ:
«سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي»
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّ مَنِ احْتَرَزَ عَنِ الْكَبَائِرِ صَارَتْ صَغَائِرُهُ مَغْفُورَةً وَإِلَّا لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنَّ طَاعَاتِ أَهْلِ بَدْرٍ كَانَتْ عَظِيمَةً وَهُوَ قَبُولُهُمُ الْإِسْلَامَ، وَانْقِيَادُهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ سِلَاحٍ وَأُهْبَةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الثَّوَابَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ كَانَ أَزْيَدَ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ، فَلَا جَرَمَ صَارَ هَذَا الذَّنْبُ مَغْفُورًا، وَلَوْ قَدَّرْنَا صُدُورَ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا صَارَ مَغْفُورًا، فَبِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّفَاوُتِ حَصَلَ لِأَهْلِ بَدْرٍ هَذَا الِاخْتِصَاصُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً رُوِيَ أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا عَنِ الْغَنَائِمِ وَلَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ هُوَ إِبَاحَةُ الْفِدَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا.
قُلْنَا التَّقْدِيرُ: قَدْ أَبَحْتُ لَكُمُ الْغَنَائِمَ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَغْنُومِ أَوْ صِفَةٍ لِلْمَصْدَرِ، أَيْ أَكْلًا حَلَالًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: وَاتَّقُوا اللَّه فَلَا تُقْدِمُوا عَلَى الْمَعَاصِي بَعْدَ

صفحة رقم 512
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية