
بل هو سيجزيهم ويمكّن منهم فى الدنيا بتسليط رسوله والمؤمنين عليهم وإذاقتهم عاقبة كيدهم، والآية بمعنى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ».
وخلاصة ذلك- قطع أطماعهم فى الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين.
وفى الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين فى الدين، وما حرّمه من الخيانة فيها- لم يكن عن ضعف ولا عن عجز، بل عن قوة وتأييد إلهى، فقد نصر الله رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار معقل الإسلام (شبه جزيرة العرب).
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
تفسير المفردات
الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها، والإرهاب والترهيب: الإيقاع فى الرهبة وهى الخوف المقترن بالاضطراب، وجنح للشىء وإليه: مال، يقال جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى

جانب الغرب الذي تغيب فى أفقه، والسلم (بفتح السين وكسرها) والسلام: الصلح وضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»
وحسبك الله: أي كافيك وناصرك عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي ﷺ وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين فى معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشرى، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
الإيضاح
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة.
ويكون ذلك بأمرين:
(١) إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين فى هذا العصر: صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله ﷺ فى غزوة خيبر وغيرها،
روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي ﷺ وقد تلا هذه

الآية يقول: «ألا إن القوّة الرمي» قالها ثلاثا،
وذلك أن رمى العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة فى عصره صلى الله عليه وسلم.
(٢) مرابطة الفرسان فى ثغور البلاد وحدودها، إذ هى مداخل الأعداء، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.
والحكمة فى هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرّة، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير فى الحرب فى هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية فى الدول الحربية.
(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو الله الكافرين به وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر، إذ لا شىء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول:
وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم | إن الدّم المغبّر يحرسه الدم |
(ا) يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم (ب) يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.
(ج) ربما حملهم ذلك على الدخول فى الإسلام والإيمان بالله ورسوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين صفحة رقم 25

العداوتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر- ممن لا تعلمون الآن عداوتهم بل يعلمهم الله وهو علام الغيوب.
والخلاصة- إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء- يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال، وهذا ما يسمى فى العصر الحديث (السلام المسلح) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي وما تنفقوا من شىء قليلا كان أو كثيرا فى إعداد المستطاع من القوة والمرابطة فى سبيل الله- بالله يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام.
(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القوىّ المستعد لمقاومة المعتدى قلما يعتدى عليه أحد، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به.
وفى هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة فى سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين فى الإنفاق فى سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما فى الدنيا والآخرة أو فى الآخرة فحسب.
وإذ كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله:
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها، لأنك أولى بالسلم منهم.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي اقبل السلم وفوّض الأمر إلى الله ولا تخف غدرهم ومكرهم، فالله هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفى عليك.
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم

الكيد والخداع ليفترصوا الفرص كانتظار الغرّة التي تمكنهم من أهل الحق، أو الاستعداد للحرب، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم.
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك، وأن سخر لك ماوراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر.
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والمال فى مناصرتك، بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً».
وقد كاد يقع شىء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم فى حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله.
وفى الآية إيماء إلى أن النصر ينال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقدّر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال:
(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه لولا نعمة الله عليهم بأخوّة الإيمان التي هى أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان- لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة فى الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة فى الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم، وأشرافهم وعامتهم، على ما كان بينهم من فوارق فى الجاهلية، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحن، لم يكن مما ينال بالمال والآمال فى المغانم ونحوها، على أن شيئا من ذلك لم يكن فى يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار فى يده شىء كثير منه فى المدينة بنصر الله له فى قتال المشركين واليهود جميعا.