آيات من القرآن الكريم

۞ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﰿ

وبالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم حيث تمتع معظمهم تمتعا كاملا بها حينما تمّ الفتح ودخل أهلها في دين الله.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
. (١) تثقّفنّهم: تلقاهم وتتمكن منهم أو تظفر بهم.
(٢) فشرّد بهم من خلفهم: خوّف وشتّت بالتنكيل بهم من وراءهم من الأعداء.
(٣) فانبذ إليهم على سواء: أصل النبذ الطرح، وقد فسّر جمهور المفسرين هذه الجملة بإعلان المعاهدين الذين يبدو منهم أمارات النقض والغدر والخيانة بأن النبي يريد أن يقف منهم نفس الموقف حتى لا يكون النقض غدرا.
(٤) رباط الخيل: إعداد الخيل وجعلها جاهزة للحرب.
(٥) جنحوا: هنا بمعنى مالوا أو رغبوا.

صفحة رقم 73

في هذه الآيات:
١- نعي على الكفار الذين يصرون على الكفر ولا يؤمنون مع ما ظهر من الحق والهدى. فهؤلاء هم شرّ الدواب عند الله.
٢- وتفسير بياني للمقصودين، فهم أولئك الذين عاهدهم النبي ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون تورّع ولا خوف من العواقب.
٣- وأمر للنبي بالتنكيل بهم إذا ما لقيهم وتمكن منهم في الحرب بحيث يكون ذلك عبرة وإنذارا لمن خلفهم من الأعداء لعلهم يتذكرون ويتورعون ولا يقدمون على البغي والغدر والخيانة.
٤- وأمر آخر للنبي: فإذا ما شعر من قوم بينه وبينهم عهد بخيانة وغدر فله أن ينقض عهده معهم بعد معالنتهم بزوال العهد بينه وبينهم فالله لا يحبّ الخائنين.
٥- وإنذار للكفار الذين ينجون من التنكيل في موقف أو ظرف ما، فلا يحسبون أنفسهم أنهم نجوا من نكال الله بالمرة، فإنهم ملحوقون ولن يسبقوا الله أو يعجزوه.
٦- وأمر موجه للمسلمين بإعداد كل ما يقدرون عليه من قوة ووسيلة حربية وبالاستعداد للحرب ليبعثوا الخوف في قلوب أعدائهم الذين هم أعداء الله وفي قلوب غيرهم ممن يضمر العداء للمسلمين ويتربص بهم الدوائر، ولا يعرفونهم ولكن الله يعلمهم.
٧- وحثّ للمسلمين على الإنفاق في سبيل الله من أجل هذا الاستعداد. فما ينفقونه من شيء يوفيه الله لهم من دون نقص وبخس.
٨- أمر موجّه إلى النبي ﷺ يحثه فيه على الميل إلى المسالمة مع الأعداء الذين هم موضوع الكلام إذا مالوا إليها والتوكل على الله فهو السميع العليم الذي لا يغيب عن علمه وسمعه أي شيء.
٩- وتطمين له ودعوة للاعتماد على الله فيما إذا كان الأعداء يبيتون الخداع

صفحة رقم 74

في تظاهرهم بالميول السلمية فالله هو حسبه. وهو الذي أيده بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم هذا التأليف الشديد الذي لو أنفق في سبيل تحقيقه ما في الأرض ما كان يتحقق لولا عناية الله العزيز الحكيم القادر على نصره والذي يأمر بما فيه الحكمة والمصلحة والصواب.
١٠- وتطمين آخر له وللمؤمنين في الصدد نفسه، فإن الله هو حسبه وحسب الذين اتبعوه وكافيهم ومانعهم فلا ينبغي أن يكونوا في قلق من جراء ما يمكن أن يقفه الأعداء من مواقف ويبيتونه من نيات.
تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) والآيات التالية لها إلى آخر الآية [٦٣] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات
١- الآيات تبدو فصلا مستقلا عن السياق السابق إلّا التناسب وبين ذكر مصير الكفار الذي ذكر في الآيات السابقة لها وبين ذكر حالة الكفار فيها. وهي فصل متكامل جميعه في موضوع واحد. ولذلك جمعناها في هذه الطبعة وشرحناها في سياق واحد. وقد تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي الموضوعي والله أعلم.
٢- وروايات المفسرين «١» متفقة على أن الآيات عنت اليهود في المدينة، وظروف نزولها التي كانت بعد قليل من وقعة بدر على ما سوف نشرحه بعد وأسلوبها يؤيد ذلك. فلم يكن بين النبي وبين أحد من الذين جحدوا رسالته عهد عدا اليهود في السنتين الأوليين من الهجرة. وروايات السيرة «٢» تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(٢) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١١٩- ١٢٣.

صفحة رقم 75

حينما استقرّ في المدينة بعد هجرته إليها من مكة كتب كتاب موادعة أبقى فيه اليهود على صلاتهم ومحالفاتهم مع الأوس والخزرج الذين كان الإسلام قد نشأ فيهم.
ومنحهم حرية الدين وأوجب عليهم نصرة المؤمنين والاتفاق معهم في الحرب كما أوجب على نفسه والمؤمنين نصرتهم غير مظلومين ولا تناصر عليهم إلّا من أثم وظلم فكان هذا عهد بينه وبينهم على تعدد كتلهم في المدينة وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.
٣- والمفسرون إلى قولهم إنها في صدد اليهود يروون روايات تخصيصية حيث يروون أن الآيتين الأوليين نزلتا في يهود بني قريظة أو عنتهم لنقضهم العهد ومظاهرتهم لقريش في وقعة الخندق. وروى الطبرسي مع إيراده الرواية السابقة أن الآية [٥٨] نزلت في صدد بني قينقاع وأن النبي ﷺ لما نزلت قال: إني أخاف بني قينقاع وسار إليها. والمناسبة بعيدة بين وقعتي بني قريظة وبني قينقاع لأن الأولى كانت في السنة الهجرية الخامسة والثانية في السنة الثانية وبعد قليل من وقعة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال. ووقعة الخندق ذكرت في سورة الأحزاب وليس من الوارد أن تذكر في سورة نزلت قبل وقوعها. وابن سعد يتوافق في طبقاته «١» مع رواية الطبرسي بأن النبي ﷺ سار إلى بني قينقاع بالآية [٥٨] ويروي المفسرون وكتب السيرة القديمة معا أن يهود بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد ووقع الصدام بينهم وبين النبي والمسلمين. وأن آيات سورة آل عمران هذه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) قد نزلت بسبيل إنذارهم ودعوتهم إلى الاعتبار بما حلّ في قريش الذين كانوا ضعف المسلمين وبنصر الله للمؤمنين. وذلك حينما بدت منهم أمارات الغدر والنقض بعد قليل من وقعة بدر. فجمعهم النبي وأنذرهم فقالوا له: «لا يغرنك أنك لقيت قوما

(١) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٦٧- ٦٨.

صفحة رقم 76

لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» «١»، وسورة الأنفال نزلت قبل سورة آل عمران. وآيات سورة الأنفال التي نحن بصددها نزلت بعد وقعة بدر وقبل وقعة أحد التي جاء في سورة آل عمران فصل طويل فيها وهذا يسوغ عدم التسليم بالروايات التي تذكر أن آيات سورة آل عمران [١٢ و ١٣] نزلت في بني قينقاع. والقول إنها نزلت في قوم آخرين ظهرت منهم بوادر غدر وعداء. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالملحوظ أن آيات سورة الأنفال عامة الشمول بحيث يتبادر لنا منها أنه لما بدأ يظهر من اليهود بوادر الغدر والخيانة بعد مواقف التعجيز والتشكيك والسخرية واللجاج والدسّ والتآمر التي حكتها سلسلة سورة البقرة اقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بهذه الآيات كخطة عامة للنبي ﷺ تجاههم. ومن الجائز أن يكون بنو قينقاع ركبوا رؤوسهم ولم يرعوا فجمعهم النبي وأنذرهم فأجابوه بما حفظته الروايات، ويجوز أنهم استمروا في غيّهم ولم يرعووا فبادر إلى التنكيل بهم وطبق مبادرته على جملة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ فقال ما حفظته الروايات إني أخاف بني قينقاع، والله أعلم.
٤- أما ما كان من أمر بني قينقاع فخلاصة ما روته كتب السيرة والتفسير أنهم كانوا يسكنون وسط المدينة، وكان لهم سوق خاص وأن امرأة من العرب جاءت بجلب لها فباعته في سوقهم ثم جلست إلى صائغ، فسألها بعضهم كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا عليها فصاحت فوثب مسلم حاضر على الصائغ فقتله فشدّ عليه اليهود فقتلوه فاستصرخ أهله فعظم الشرّ. وقد حصرهم النبي والمسلمون في محلتهم خمس عشرة ليلة وضيّق عليهم حتى نزلوا على حكمه. وكانوا حلفاء للخزرج فطلب عبد الله بن أبيّ أحد كبار زعمائهم وكان كبير المنافقين من النبي ﷺ أن

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٤٢٦ و ٤٢٩ وانظر تفسير آيات آل عمران في كتب التفسير المذكورة.

صفحة رقم 77

يحسن في حلفائه، وألحّ في الطلب حتى أساء أدبه مع النبي، وقال له فيما قال أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. ورأى النبي من الحكمة المسايرة فاكتفى بإجلائهم عن المدينة وسمح لهم بحمل ما قدروا عليه من مال وسلاح واستولى على ما بقي لهم في محلتهم من عقار وسلاح ومتاع وأثقال فأخذ خمسه ووزع الباقي على من شهد الحصار معه، وقد جلوا إلى أذرعات «١».
ويتبادر لنا من فحوى الآيات وروحها وقول النبي ﷺ إني أخاف بني قينقاع الذي أجمعت الروايات على ذكره ولو لم يرد حديث صحيح فيه أنه كان لبني قينقاع مواقف غدر ونقض عديدة فجاء حادث الامرأة والصائغ لتملأ الكأس وكان التنكيل مباشرة بعده، والله أعلم.
٥- ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في المعنيين بجملة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ منها أنهم المنافقون استئناسا بآية سورة التوبة هذه وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [١٠١] ومنها أنهم الفرس. ومنها أنهم كل عدو للمسلمين لم يكن ظاهرا أو معروفا بعدائه، ومنها أنهم الجن. وأوردوا في المقول الأخير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «إنّ النبي ﷺ كان يقول في قول الله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم الجنّ»، والحديث لم يرد في الصحاح ونرى التوقف فيه كما نرى الوقوف عند الآية والقول إنها هدفت إلى تنبيه المسلمين إلى ما يمكن أن يكون لهم من أعداء لا يعرفونهم ويعرفهم الله بسبيل التحذير وإيجاب الاستعداد وإعداد ما استطاعوا من قوة لإرهاب أعدائهم المعروفين وغير المعروفين، وقد يكون من جملة هؤلاء الطوائف اليهودية الأخرى التي كانت لم تظهر عداء صريحا ولكنها تبطنه والتي حكت سلسلة سورة البقرة ما كان لها من مواقف جحود ودسّ

(١) هذا تلخيص ما ورد في كتب التفسير والسيرة، انظر كتب التفسير المذكورة وانظر ابن هشام ج ٢، ص ١١٩- ١٢٢ وابن سعد ج ٣ ص ٦٧ و ٦٨.

صفحة رقم 78

وتشكيك وتآمر ونقض، والله تعالى أعلم.
٦- وجمهور المفسرين على أن المعنيين في الآية [٦٣] الذين ألّف الله بينهم هم الأوس والخزرج الذين كانوا غالبية عرب المدينة والذين صار اسمهم في الإسلام (الأنصار). وقد كان بينهم تنافس وحروب وثارات قبل الإسلام وكان بعض كتل اليهود يحالفون الأوس وبعضهم يحالفون الخزرج على ما شرحناه في سياق الآيات [٨٤ و ٨٥] من سورة البقرة. وقد ألّف الله قلوبهم على يد رسوله فدعا من اجتمع إليه منهم في مكة واستجابوا لدعوته ثم بعد أن هاجر النبي إلى المدينة فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. وقد جاءت إشارة ثانية إلى هذا في آية سورة آل عمران هذه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وهذه الآية في ظرف حاول اليهود فيها أن يثيروا فتنة بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بما كان بينهم من ثارات على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
٧- ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير في صدد الآية الأخيرة من الآيات إلى [٦٤] أنها نزلت بعد إسلام عمر حيث كان أسلم قبله ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة فكمل عددهم بإسلام عمر أربعين. وعلق ابن كثير على ذلك بقوله إن إسلام عمر كان في مكة وهذه الآية مدنية، وهو تعليق في محله. على أن جمهور المفسرين على أن هذه الآية جزء متمم للكلام وهو الحق المتبادر.
ولقد تعددت أقوال المفسرين والمؤولين في مدى الآية، منها أنها بمعنى (إن الله حسبك وحسب من اتبعك) وذلك بسبيل تهوين شأن أعدائهم. ومنها أنها بمعنى (الله هو حسبك، وحسبك كذلك متبعوك) فهذا كاف لك للانتصار على الأعداء، وكلا القولين وجيه.
وجملة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) في الآية السابقة لها قد تؤيد وجاهة التأويل الثاني وإن كان مقام الآية قد يجعل الرجحان للتأويل الأول من

صفحة رقم 79

حيث إن التأويل الثاني يجعل المؤمنين الذين اتبعوا النبي (حسب) النبي بالإضافة إلى الله. والأدب والإيمان يقضيان بأن الله وحده هو حسب النبي والمؤمنين معا، وكلمة (حسبك) ليست في مقام أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.
التلقينات المنطوية في الآيات [٥٥- ٦٤]
والآيات كما قلنا احتوت خطة عامة للنبي ﷺ تجاه أعداء الإسلام والمسلمين، وقد انطوى فيها تلقينات جليلة عامة مستمرة المدى كذلك وهذا هو المتبادر من ذلك:
١- إن الذين لا يصدقون بالحق ويقفون منه موقف المكابرة والعناد ولا يتورعون عن نقض عهودهم مرة بعد مرة هم شرّ من الدواب.
٢- إن الحروب التي باشرها النبي والتي يصح أن يباشرها المسلمون بعده هي حروب دفاع وردع وإنذار وتذكير وعبرة للغير. وهدفها حمل الأعداء والبغاة على الارعواء وضمان أمن المسلمين وحرية الدعوة الإسلامية، وليست حروب عدوان وإبادة.
٣- إن الواجب يقضي بالتمسك بالعهود فلا يكون من المسلمين نقض بدءا في أي حال. وليس لهم إلّا المقابلة على العدوان بمثله. وعلى الخيانة بما يستحقه الخائن الغادر.
٤- إذا بدا من معاهد بوادر غدر أو خيانة صراحة أو سرا أو دسّا أو مظاهرة للأعداء فللمسلمين الحق حينئذ بنقض عهدهم معه والوقوف منه نفس موقفه. غير أن عليهم واجب إعلان بأنهم في حلّ من عهده ليكونوا وإياه في مركز متساو.
ويعلم كل منهما موقف الآخر وليس لهم أن يفاجئوه بالنقض والحرب دون إنذار وإعلان. ويمكن استدراك أمر وهو أن هذا يكون في حالة عدم اقتران غدر العدو

صفحة رقم 80

ونقضه بعمل عدواني مفاجىء أو في حالة عدم إحداق الخطر من العدو بالمسلمين من جراء ما تيقنوا منه من نية الخيانة. وفي الآية [٥٨] ما يمكن أن يلمح تأييد لهذا الاستدراك والله أعلم.
٥- إن من واجب المسلمين الاستعداد بالقوة بكل ما يستطيعون من أسباب وأساليب. لأن هذا قد يكون وسيلة لإرهاب العدو وكبح جماحه وتفادي القتال فيحصل بذلك المقصود. وهو قمع عدوان العدو. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالاستعداد والإنفاق عليه شامل لكل أنواع الاستعداد والوسائل التي من شأنها كفالة الغاية. والتمشي في ذلك مع كل ظرف وتطور. وإن التقصير فيه أو إهماله إثم ديني عظيم لأنه مخالف لأمر الله ومعرض للمسلين وبلادهم ودينهم للأخطار والأضرار المادية والمعنوية. وقد احتوى القرآن آيات كثيرة متنوعة الأساليب في هذا الأمر. وفي سورة البقرة آية تنبه بصراحة وقوة على ذلك وهي:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥).
٦- في الآية [٥٩] معالجة روحية من شأنها بثّ القوة في نفوس المؤمنين وإثارة التحسّب في نفوس أعدائهم. فلا ينبغي الاعتقاد أن عدو المسلمين إذا نجا من نكال الله في موقف ما أنه يستطيع أن يفلت منه فهو محيط به. وكل ما هنالك أن حكمته اقتضت إمهاله. وهذه المعالجة انطوت في آيات كثيرة وفي سور سبق تفسيرها وفي سور آتية مع وعد رباني صريح بأن نصر المؤمنين حق على الله.
٧- على المسلمين مقابلة الميول السلمية من الأعداء بمثلها حتى في حال احتمال تظاهر العدو بهذه الميول خداعا. وكل ما يجب هو أن يكون المسلمون في حذر وتنبّه. وينسجم هذا مع المبدأ القرآني المقرر مكررا من كون حروب المسلمين هي حروب دفاع ومقابلة بمقدار الضرورة التي تكفل سلامة المسلمين وحرية الدين. والأمر القرآني السابق شرحه بالاستعداد الدائم لمقابلة العدو وإرهابه وللإنفاق على ذلك مع الاعتماد على الله هو الكافي لإحباط ما يحتمل أن يبيته العدو من خداع ولجعله يكفّ عنه. ولقد قال بعض المؤولين إن هذا منسوخ بأمر

صفحة رقم 81

قتال المشركين كافة إلى أن يسلموا أو بأمر قتال الكتابيين إلى أن يخضعوا ويعطوا الجزية. ونفى بعضهم ومنهم الطبري النسخ وقالوا إن الأمر محكم. وهو الأوجه المتسق مع التقريرات القرآنية التي لا تسوغ القتال لمجرد الشرك والكفر بالرسالة الإسلامية إذا لك يكن من المشرك والكافر عداء وعدوان على ما شرحناه في مناسبات سابقة وما سوف يأتي مزيد من شرحه بعد.
٨- ويلحظ أن الأمر القرآني للمسلمين هو لمقابلة جنوح العدو إلى السلم بالمثل، وليس في هذه الآيات ولا في غيرها تسويغ لأن يكون الجنوح للسلم بدءا من المسلمين. بل في سورة محمد آية تنهى عن ذلك وهي: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) أي لا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام عدوهم ويطلبوا منه السلم. فهم الأعلون بإيمانهم وتأييد الله لهم وهو مهم كما جاء في هذه الآيات وآيات عديدة أخرى مثل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: ٨] وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٤٧] وغيرها وغيرها. وفي سورة النساء هذه الآيات المهمة الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) ووَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤).
٩- وجنوح العدو للسلم معناه أنه شعر بضعفه وعجزه أمام المسلمين فرأى أن ينتهي من موقفه العدائي العدواني وفي هذا تحقيق لغاية الجهاد في سبيل الله على ما جاء في آية سورة البقرة هذه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) فاقتضت حكمة الله أمر المسلمين بالجنوح للسلم إذا جنح لها عدوهم وعزم على الانتهاء من موقفه العدائي العدواني إزاءهم. وقد شرحنا هذه الآية وبينا ما هو مدى انتهاء العدو من موقفه العدائي في سياق تفسير الآية.

صفحة رقم 82

وفي كل ما تقدم تلقينات جليلة رائعة.
١٠- ومن واجبنا أن ننبه في هذا المقام على مسألة مهمة وهي الاستجابة لطلب دولة اليهود في فلسطين السلم أو جنوحها إليه. فالتلقين القرآني لا ينطبق عليها وإنما ينطبق على العدو الذي له دار ودولة خاصة به منذ الأصل. أما اليهود في فلسطين فهم أعداء معتدون على دار المسلمين والعرب. ومغتصبون لما احتلوه من فلسطين اغتصابا باغيا بمساعدة طواغيت دول الاستعمار أعداء المسلمين والعرب. وقامت دولتهم في فلسطين بعد أن حاربوا المسلمين والعرب فيها أشد حرب وآذوهم أشد أذى وطردوهم من مدنهم وقراهم واستولوا على بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وكرومهم وثرواتهم المنقولة وغير المنقولة. وهتكوا حرماتهم ودنسوا مقدساتهم وهدموا مساجدهم وأزالوا معالم الإسلام والعروبة ولم يكن بينهم وبين العرب والمسلمين سابق عداء قبل تفكيرهم في غزو فلسطين واغتصابها وإنشاء دولة لهم فيها على أنقاض العرب والمسلمين بل كان العرب والمسلمون في ظل السلطان الإسلامي يمنحون من كان في ظل هذا السلطان منهم الحرية والأمان والطمأنينة ومجال النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين كانوا وظلوا معرضين للاضطهاد والمطاردة والمصادرة في جميع البلاد الأخرى التي كانوا يحلون فيها.
وهم حينما يعلنون رغبتهم في السلم مع العرب يريدون ذلك، مع احتفاظهم بما اغتصبوه من دار العرب والمسلمين ونسيان كل ما فعلوه فيهم. ومعنى الأمر للمسلمين بمقابلة ذلك الجنوح بمثله لا ينطبق عليهم، حتى لو تركوا بعض ما اغتصبوه واكتفوا بالقسم الذي قررته لهم هيئة الأمم، لأنه دار المسلمين والعرب وليس لهذه الهيئة أن تمنحهم جزءا مهما كان صغيرا من هذه الدار. وليس لأحد من المسلمين والعرب حقّ في قبول ذلك وهو خيانة لله ولرسوله وللمسلمين وعليهم واجب إعداد كل قوة يستطيعونها لمقاتلتهم وتضييق الخناق عليهم وحصارهم بدون هوادة ولا كلل إلى أن يقوضوا دولتهم وتعود البلاد كما كانت إلى حظيرة السلطان الإسلامي العربي وكل تهاون في ذلك إثم ديني عظيم.
هذا، ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآيات

صفحة رقم 83

متساوقة مع تلقيناتها، وابن كثير أكثر من استوعبها منهم. ومنها ما هو وارد في كتب الصحاح، ومن ذلك في صدد عدم النقض إلّا بعد إعلان العدو حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، إنّ رسول الله قال من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها حتى ينقضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ هو عمرو بن عبسة أحد أصحاب رسول الله» «١». ومن ذلك في صدد الاستعداد حديث رواه أصحاب السنن عن رسول الله قال: «إنّ الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به والممدّ به. وقال ارموا واركبوا ولأنّ ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا» «٢». وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عقبة بن عامر قال: «سمعت النبيّ ﷺ وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إنّ القوّة الرمي، ألا إن القوّة الرمي، ألا إنّ القوّة الرمي» «٣». وحديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي ﷺ قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منّا أو قد عصى» «٤». ومن ذلك حديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» «٥». وفي صدد رباط الخيل حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صدده أيضا حديث رواه الخمسة عن عروة البارقي عن النبي ﷺ قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» «٦». وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من احتبس

(١) التاج، ج ٤ ص ٣٣٥ وابن كثير ذكر أن الإمام أحمد رواه عن سليم بن عامر أيضا.
(٢) التاج، ج ٤ ص ٣١٩ و ٣٢٠.
(٣) المصدر نفسه. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه ص ٣١١ و ٣١٢.

صفحة رقم 84
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية