بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النّبإوتسمى سورة عم وعم يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دلّ ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر وجه اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: ١٦] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: ٢٠] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [المرسلات: ٢٥] إلخ وفي هذه أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] إلخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر أيضا في سورة المرسلات لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات: ١٣] وفي هذه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧] إلخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها اهـ. وقيل إنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: ٢٥] وكان المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد بالنبإ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ أصله عما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الاتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم. وقد قرأ عبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الاستعمال وقال ابن جنّي إثبات الألف أضعف اللغتين صفحة رقم 201
وعليه قوله:
علام قام يشتمني لئيم | كخنزير تمرغ في رماد |
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت | هصرت بغصن ذي شماريخ ميال |
قيل بطريق الجواب عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ على منهاج لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزالة التنزيل. وقال مكي إن ذلك بدل من ما الاستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في الكشف بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الاستفهام أولا. وقال الخفاجي: البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الاستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض. وقيل هو متعلق ب يَتَساءَلُونَ المذكور وعَمَّ متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية «عمه» بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا حسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام، ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقتان ب يَتَساءَلُونَ المذكور كأنه قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم. ونقله ابن عطية عن أكثر النحاة وقيل عَنِ النَّبَإِ متعلق بمحذوف وهناك استفهام مضمر كأنه قيل عَمَّ يَتَساءَلُونَ أيتساءلون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ووصف النبأ وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفِيهِ متعلق ب مُخْتَلِفُونَ قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا [المؤمنون: ٣٧] إلخ وشاك يقول ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] وقيل منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى. وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لإنكاره الصانع المختار تعالى شأنه، ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الاختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والاستهزاء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ وضميرهم للناس عامة وقيل: يجوز أن يكون الاختلاف بالإقرار والإنكار على كون ضمير يَتَساءَلُونَ للكفار أيضا بأن يجعل ضميرهم للسائلين والمسئولين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول. وقال مفتي الديار الرومية: الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق
والتسابق والانتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل «الذي هم فيه مخالفون» للنبي صلّى الله عليه وسلم انتهى. وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء، وقرأ عبد الله وابن جبير «تسّاءلون» بغير ياء وشد السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين.
كَلَّا ردع عن التساؤل على الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الاختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم في أمر البعث، وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إلى ما فيها. وقوله
سبحانه سَيَعْلَمُونَ وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقرب والتأكيد ومفعول «يعلمون» محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل، والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل. وقيل: هو ما ينبىء عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه على معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يديّ ربهم عزّ وجلّ وإلّا لم يظهر كون ما ذكر وعيدا ومن جعل ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين بالبعث الجازمين به، وجوز بعضهم كون كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردعا ووعدا على الارتداع والمراد ليرتدعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الارتداع، وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات. وقوله تعالى ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة. وثُمَّ للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وأشد وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله إنه من التوكيد اللفظي وإن توسط حرف العطف فلا تغفل. وقيل: الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء، والثاني إشارة إلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديد العقاب فثم في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه. والظاهر أن العطف على هذا وما قبله على مجموع كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف على سَيَعْلَمُونَ وأورد عليه أن ثُمَّ إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه لدفع التخصيص بلا مخصص أنه على الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتها بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون كَلَّا الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي عليه إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلّا سَيَعْلَمُونَ دون كَلَّا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الإنكار أي الصريح، وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما ترى. وقيل: متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء على إنكاره، وثُمَّ في محلها أي كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حقيقة البعث إذا بعثوا ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ الجزاء على إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا. وجوز أن يكون المتعلق مختلفا وثُمَّ للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحواله المؤمنين، والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والثاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى، وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا بناء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة وثُمَّ لذلك أيضا بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا للكافرين وهما متفاوتان رتبة، ولا يخفى عليك ما في ذلك.
وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر «ستعلمون» في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون إلخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع سن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلّى الله عليه وسلم. وعن الضحاك.
أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة. وقوله تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إلخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته إثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع، وجوز أن
يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكّون في البعث وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي و (المهاد) الفراش الموطأ.
وفي القاموس المهد الموضع الذي يهيأ للصبي كالمهاد وعليه فالمهد والمهاد بمعنى ويؤيده قراءة مجاهد وعيسى الهمداني «مهدا» وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمّي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير، أو لتقدير ذات مهاد أو مهد. وقيل: كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا سمّي المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ للمفعول كالإله والإمام وجعل الأرض مهادا إما في أصل الخلقة أو بعدها، وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم، وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد قال الأفوه:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالت: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال:
نعم النار، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار؟ قال: نعم الماء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال: نعم الهواء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفي ذلك عن شماله»
. وظاهره كغيره أن خلق الجبال به خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس إن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حدث منها بطول الزمان:
إن الجديدين إذا ما استو | ليا على جديد أسلماه للبلى |
للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على محالية إرادة الظاهر. نعم قيل: إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعله كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به، وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك والارتباط فافهم. وَخَلَقْناكُمْ عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا إلخ أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا إلخ والالتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سَيَعْلَمُونَ للمبالغة في الإلزام والتبكيت أَزْواجاً قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش، وقيل: أصنافا في اللون والصورة واللسان، وقيل: يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة خلقنا كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم، والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: ٦٠] وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة، ويقال: سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه. وزعم ابن الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه كان أصم. وقيل:
أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والامتنان به لما فيه من عدم الانزعاج، وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا أي سكونا وراحة. يقال: سبت الرجل إذا استراح. وزعم ابن الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحساس فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلال، ومنه سمّي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم فيه، وقيل: سمّي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز وجل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمّي بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ الذي يقع فيه النوم غالبا لِباساً يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل. واختار غير واحد إرادة الأعم وأن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيون إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الاطّلاع عليه من كثير من الأمور. وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال:
وكم لظلام الليل عندي من يد | تخبر أن المانوية تكذب |
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم | وزارك فيه ذو الدلال المحجب |
ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق كما لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو: أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر، وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة. والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط. وقيل: المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل، ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الاستتار. وفي الكشف أن المطابقة بين قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وقوله سبحانه وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى وجعلنا النوم من حيث إن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحيّ ومنه علم أن قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه. وفيه تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهها بالقباب المبنية على سكنتها. وقيل: للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك. وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلنا سقفا في آية أخرى. وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن. كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرش مشابه لتحدب الأرض فيه، لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسّا فكذا سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية، وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا. وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم، وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته. بقي هاهنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة
المنكرون للعبث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة، فيقال: إن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة وهم المكذبون بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي،
وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها بعضا فقالوا في بادىء النظر بسبع سماوات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه. واعترض بأن هذا لا يتم إلّا إذا كانوا قائلين بأن السماء عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا، ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة، ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره. وقيل إنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه منافيا لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل، وقيل: نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد. وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى. واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة قد جعلنا الأرض إلى آخره وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عزّ وجلّ بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي ب «لم» أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل. وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إنه مع مراعاة الفواصل.
وَجَعَلْنا أي أنشأنا وأبدعنا سِراجاً وَهَّاجاً مشرقا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج. والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء.
ونصب سِراجاً على المفعولية ووَهَّاجاً على الوصفية له، وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه هنا ما يتعدى إليهما، وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وإن قيل السراج الشمس وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة. واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في السماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في البحر من عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوا.
والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج، وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف، وأيهما خفي لونه فهو منكسف. وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولا انكسافها بشيء من الكواكب غير القمر، فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفاتها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معا والبصر على خط واحد مستقيم وإلّا لم
يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والأبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للأبصار على ما نص عليه بطليموس في الاقتصاص. وذهب بعض من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وإن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة النظام على ما بيّن في موضعه ومال إليه بطليموس. قال في المجسطي: ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يعبد عنها إلا يسيرا، ثم قوي عزمه لما رأى بعد الشمس المعلوم من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأن لما وجد بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة. قال في الاقتصاص: مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير، وفي الثاني في أسفله، ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله. وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء، وأهل الإرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالى جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الاختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل إنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كما جزر إذا حان وقت جزاره، وأحصد إذا شارفت وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. قال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينا مائلا خمارها | قد عصرت أو قد دنا إعصارها |