
سورة القيامة
مكيّة، وهي ستمائة واثنان وخمسون حرفا، ومائة وتسع وتسعون كلمة، وأربعون آية
أخبرني محمد بن القيم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثني أبي عن مجاهد عن عبد الواحد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الخليل وعن علي ابن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زرين حبش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة» [٦٥] «١».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ١٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قراءة العامة مقطوعة الألف مهموزة.
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ مثلها، وقرأ الحسن وعبد الرحمن الأعرج لأقسم بغير ألف موصله. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ بالألف مقطوعة على معنى أنه أقسم باليوم ولم يقسم بالنفس، ومثله روى القواس عن شبل عن ابن بكير، والصحيح أنه قسم بهما جميعا ومعنى قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اختلفوا فيه فقال: بعضهم لا صلة أي أقسم بيوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير وقال أبو بكر بن عباس: هو تأكيد للقسم كقولك لا والله، وقال الفراء في قوله لا: رد لكلام المشركين ثم ابتدأ القسم فقال أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وقال: وكل يمين قبلها رد فلا بد من تقديم (لا) قبلها ليفرّق بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف، ألا ترى أنك تقول مبتدئا: والله إن الرسول لحق، فإذا قلت: لا والله إن الرسول لحق، فكأنك أكّدت قوما أنكروه.

أخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا وكيع عن سفيان ومسعر عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: لا يقولون القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته، وبه عن سفيان ومسعر عن أبي قيس قال: شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته.
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال: سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء. مجاهد: تندم على ما فات وتلوم عليه وتقول لو فعلت ولو لم أفعل.
قتادة: اللوامة: الفاجرة. ابن عباس: هي المذمومة، وقال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت، وإن كانت عملت سوءا قالت: يا ليتني لم أفعل. الحسن: هي نفس المؤمن، قال: إنّ المؤمن والله ما تراه إلّا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإنّ الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا [يعاتبها] «١». مقاتل: هي نفس الكافر تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا، وقيل: لومها قوله سبحانه: يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «٢» ويا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «٣» أي في أمر الله. سهل: هي الإمارة بالسوء وهي قرينة الحرص والأمل.
أبو بكر الورّاق: النفس كافرة في وقت منافقه في وقت مرائية على الأحوال كلّها هي كافرة لأنها لا تألف الحق، وهي منافقة لأنها لا تفي بالعهد، وهي مرائية لأنها لا تحبّ أن تعمل عملا ولا تخطو خطوة إلّا لرؤية الخلق، فمن كانت هذه صفاته فهي حقيقة بدوام الملامة لها.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ
نزلت في عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس ابن شريف حليف بني زهرة وكان النبي (عليه السلام) يقول: «اللهم اكفني جاري السوء» يعني عديا والأخنس [٦٦] «٤» وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي (عليه السلام) فقال: يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون، وكيف يكون أمرها وحالها فأخبره النبي (عليه السلام) بذلك، فقال:
لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ولم أؤمن به، أويجمع الله العظام؟
فأنزل الله سبحانه أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني الكافر.
أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد تفريقها وبلائها فنجيبه ونبعثه بعد الموت، يقال: إنّه ذكر
(٢) سورة الفجر: ٢٤.
(٣) سورة الزمر: ٥٦.
(٤) تفسير القرطبي: ١٩/ ٩٣.

العظام، والمراد بها نفسه كلّها لأن العظام قالب الخلق ولن يستوي الخلق إلّا باستوائها، وقيل:
هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقول الآخر: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «١».
ثم قال سبحانه: بَلى قادِرِينَ أي نقدر استقبال صرف إلى الحال، قال الفراء:
قادِرِينَ نصب على الخروج من نَجْمَعَ كأنك قلت في الكلام: أيحسب أن لن يقوى عليك، بَلى قادِرِينَ على أقوى منك، يريد بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا «٢»، وقرأ ابن أبي غيلة قادرون بالرفع، أي بلى نحن قادرون، ومجاز الآية: بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أنامله فيجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحد كخف البعير، أو كظلف الخنزير، أو كحافر الحمار، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء فحسّنا خلقه. هذا قول عامة المفسرين.
وقال القبيسي: ظن الكافر أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال الله سبحانه: بَلى قادِرِينَ أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى نسوي البنان، ومن يقدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر! وهذا كرجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلف من هذا الحنظل في خيط ويقول نعم وبين الخردل.
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول تعالى ذكره: ما يجهل ابن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه، أي يمضي قدما في معاصي الله راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي، وقال سعيد بن جبير: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله، وقال الضحاك: هو الأمل يأمل الإنسان يقول: أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس وابن زيد: يكذّب بما أمامه من البعث والحساب، وقال ابن كيسان: يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا.
وأصل الفجور: الميل، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر: فاجر، لميلهم عن الحق، وقال السدي أيضا: يعني ليظلم على قدر طاقته، وقيل: يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه.
يَسْئَلُ أَيَّانَ متى يَوْمُ الْقِيامَةِ فبيّن الله له ذلك فقال عزّ من قال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق: بَرَقَ بفتح الراء وغيرهم بالكسر.
(٢) تفسير الطبري: ٢٩/ ٢١٩.

أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال:
بَرِقَ بالكسر يعني جار قال: وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال: بَرَقَ بالفتح، وقال: إنّما برق الحنظل اليابس، وبرق البصر قال: فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: إنما برق الحنظل والنار والبرق، وأما البصر فبرق عند الموت، قال: فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال: أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال: قتادة ومقاتل: شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن، وقال الفراء والخليل:
بَرِقَ بالكسر فزع، وأنشدا لبعض العرب:
فنفسك قانع ولا تتغي | وداو الكلوم ولا تبرق |
قال ذو الرمّة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت | لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق «١» |
لما أتاني ابن عمير راغبا | أعطيته عيسا صهابا فبرق «٢» |
وَخَسَفَ الْقَمَرُ أظلم وذهب ضوءه، قال ابن كيسان: ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «٣»، وقرأ [ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج] : وَخُسِفَ بالضم لقوله: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «٤» أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران، وهي في قراءة عبد الله: وجمع بين الشمس والقمر، وقيل: وجمع بينهما في ذهاب الضياء، وقال عطاء بن يسار: يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى،
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: يجعلان في نور الحجب.
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ المهرب، وقرأها العامة الْمَفَرُّ بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأنه مصدر، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء، قال الكسائي: هما
(٢) الأبيات في تفسير القرطبي: ١٩/ ٩٦ مورد الآية.
(٣) سورة القصص: ٨١.
(٤) سورة القيامة: ٩.

لغتان مثل مدب ومدب ومصح ومصح، وقال الآخرون: بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع.
كَلَّا لا وَزَرَ لا حصن ولا حرز ولا ملجأ، قال السدي: لا جبل، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال الله سبحانه: لا جبل يومئذ يمنعهم.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شيء، وقال مقاتل: المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وقال يمان: المصير والمرجع، وهو قول ابن مسعود نظيره إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
«١» وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «٢» وقوله سبحانه أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «٣».
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«٤» قال ابن مسعود وابن عباس: قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. عطية عن ابن عباس:
بِما قَدَّمَ
من المعصية وَأَخَّرَ
من الطاعة. مجاهد: بأول عمل عمله وآخره. قتادة: بِما قَدَّمَ
من طاعة الله وَأَخَّرَ
من حقّ الله فضيّعه. ابن زيد: بِما قَدَّمَ
من عمل من خير أو شر وما أَخَّرَ
من العمل بطاعة الله فلم يعمل به.
عطاء: بِما قَدَّمَ
في أول عمره وما أَخَّرَ
في آخر عمره. زيد بن أسلم: بِما قَدَّمَ
من أمواله لنفسه وما أَخَّرَ
خلّف للورثة، نظيره عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «٥».
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول:
سمعت أبي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب:
أوّلها: خذلان الله لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه.
والثانية: أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه.
والثالثة: أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته.
والرابعة: نظر إليه وهو يعصيه.
والخامسة: وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه.
فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب.
(٢) سورة آل عمران: ٢٨. [.....]
(٣) سورة الشورى: ٥٣.
(٤) سورة القيامة: ١٣.
(٥) سورة الإنفطار: ٥.