آيات من القرآن الكريم

كَلَّا لَا وَزَرَ
ﯞﯟﯠ

لإيقانه أن ليس له مفر.
وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَا وَزَرَ (١١).
وذكر أهل التأويل أن الوزر هو الجبل بلغة حمير.
وذكر عن الحسن قال: كانت العرب يخيف بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض؛ فكان يكون الرجلان في ماشيتهما فلا يشعران حتى يريا نواصي الخيل، فيقول أحدهما لصاحبه: الوزر الوزر، يعني: الجبل؛ فكأنه يقول: ليس لهما إذ ذاك تفريج ولا تسل من الأحزان كما يتسلى من يأوي إلى الجبل في الدنيا عن بعض ما يحل به من الأفزاع.
وقيل: الوزر: الملجأ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) فتأويله: أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله؛ كقوله: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).
وقال بعض أهل التأويل: بما قدم من أنواع الطاعة، وما أخر من حق اللَّه تعالى من اللوازم التي كانت عليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بما أعلن، وأسر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بما قدم في حياته من أعمال، وما أخر، أي: ما سن من سنة، فاستن بها بعد موته.
وقد ذكرنا أنه باللطف من اللَّه تعالى ما يعلم بالذي قدم من الأعمال وأخرها، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه؛ وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا، ثم أتت عليه مدة، لم يتذكر جميع ما كتب فيه، ولا وقف على علم ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥):
هذا يخرج على وجهين:

صفحة رقم 342

أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا: أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها: أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: أرخى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، فيقدمون على الحلف؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني: أن يكون معنى البصيرة: الشاهد، أي: أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: وإن ستر على نفسه، شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ...) الآية.
فَإِنْ قِيلَ: إن الإنسان مذكر، كيف وصف بالبصر بلفظة التأنيث بقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، ولم يقل " بصير "؟
فجوابه من أوجه:
أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنسٍ فيه الجماعة، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط؛ ألا ترى إلى قوله: (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، استثنى الذين آمنوا من قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ولا يستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة؛ فيكون قوله: (بَصِيرَةٌ) راجعا إلى الجماعة، واللَّه أعلم.
وجواب ثان قوله: (بَصِيرَةٌ) وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل، حتى لا يعزب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة؛ كقولك: فلان علامة ونسابة، وراوية للشعر، وبالغة في النحو.
والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر

صفحة رقم 343
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية