آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ
ﮪﮫ ﮭﮮ ﮰﮱ ﯔﯕ ﯗﯘ ﯚﯛﯜ ﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮ

وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أَيْ أَقِيمُوا صَلَاتَكُمُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ لِمَنْ قَالَ إِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ لَكِنَّ مَقَادِيرَ النُّصُبِ وَالْمَخْرَجِ لَمْ تُبَيَّنْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنَّ تَطَوَّعَ» «١».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يَعْنِي مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ وَأَوْفَرَهُ، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: ٢٤٥] وقوله تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أَيْ جَمِيعُ ما تقدموه بين أيديكم فهو لَكُمْ حَاصِلٌ وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَبْقَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَنْ مَالِ وَارِثِهِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ قَالَ: «اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ» قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّمَا مَالُ أَحَدِكُمْ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» «٢» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طريق أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ، آخر تفسير سورة المزمل، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٤، ومسلم في الإيمان حديث ٨.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٢، والنسائي في الوصايا باب ١، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٢.

صفحة رقم 270

ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «١» وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا قَوْلُهُ تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: ١] كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُلْتُ: يَقُولُونَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: ١] فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتَ لِي فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا- قَالَ- فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا- قَالَ- فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» هَكَذَا سَاقَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ:
أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ فترة الوحي فقال في حديثه: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السماء فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَثَثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فزملوني، فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ- إِلَى- فَاهْجُرْ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ الْأَوْثَانُ- ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ» «٢» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَهَذَا السِّيَاقُ هُوَ الْمَحْفُوظُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ الْوَحْيُ قَبْلَ هَذَا لِقَوْلِهِ: «فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ» وَهُوَ جِبْرِيلُ حِينَ أَتَاهُ بِقَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ: ١- ٥] ثُمَّ إِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ هَذَا فَتْرَةٌ ثُمَّ نَزَلَ الْمَلَكُ بَعْدَ هَذَا.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ هَذِهِ السُّورَةُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بِحِرَاءٍ الْآنَ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض فجثيت مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُمْ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٤، باب ١.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٤، باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٥، ٢٥٧.
(٣) المسند ٣/ ٣٢٥.

صفحة رقم 271

وَتَتَابَعَ» «١» أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ صَنَعَ لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَاهِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِكَاهِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاعِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سِحْرٌ يُؤْثَرْ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَزِنَ وَقَنَّعَ رَأْسَهُ وَتَدَثَّرَ، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ أَيْ شَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ وَأَنْذِرِ النَّاسَ، وَبِهَذَا حَصَلَ الْإِرْسَالُ كَمَا حَصَلَ بِالْأَوَّلِ النُّبُوَّةُ.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أَيْ عَظِّمْ. وَقَوْلُهُ تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ الْأَجْلَحُ الْكِنْدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرَةٍ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثقفي: [الطويل]

فَإَنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «٢»
وَقَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْآيَةِ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَقِيُّ الثِّيَابِ وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَطَهِّرْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: مِنَ الْإِثْمِ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: نَفْسَكَ لَيْسَ ثيابك، وفي رواية عنه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، وَكَذَا قَالَ أَبُو رَزِينٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيْ لَسْتَ بِكَاهِنٍ وَلَا سَاحِرٍ فَأَعْرِضْ عَمَّا قَالُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيْ طَهِّرْهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الرَّجُلَ إِذَا نَكَثَ وَلَمْ يف بعهد الله إنه لدنس الثِّيَابِ، وَإِذَا وَفَّى وَأَصْلَحَ إِنَّهُ لَمُطَهَّرُ الثِّيَابِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَلْبِسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ. وقال الشاعر: [الطويل]
(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٧، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٦. [.....]
(٢) يروى البيت:
إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنّع
وهو لغيلان في لسان العرب (طهر)، وتهذيب اللغة ٦/ ١٧٢، ١٥/ ١٥٤ وتاج العروس (طهر)، وتفسير الطبري ١٢/ ٢٩٨، والبحر المحيط ٦/ ٤٦، ٨/ ٣٦٣، ولابن مطر المازني في معجم الشعراء ص ٤٦٨، والمرصع ص ٢٧٨، ولبرذع بن عدي الأوسي في مجالس ثعلب ص ٢٥٣، وبلا نسبة في لسان العرب (ثوب)، (قط)، وأساس البلاغة (قنع)، (خزي)، وتاج العروس (ثوب)، (قنع).

صفحة رقم 272

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ «١»
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ يعني لا تكن ثِيَابُكَ الَّتِي تَلْبَسُ مِنْ مَكْسَبٍ غَيْرِ طَائِبٍ، وَيُقَالُ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَيِ اغْسِلْهَا بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَتَطَهَّرُونَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَأَنْ يُطَهِّرَ ثِيَابَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ طَهَارَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الثِّيَابَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ امرؤ القيس: [الطويل]
أَفَاطِمَ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ هَجْرِي فَأَجْمِلِي «٢»
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَقَلْبَكَ وَنِيَّتَكَ فَطَهِّرْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي والحسن البصري: وخلقك فحسن، وقوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالرُّجْزَ وَهُوَ الْأَصْنَامُ فَاهْجُرْ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْأَوْثَانُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أَيِ اتْرُكِ الْمَعْصِيَةَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ تَلَبُّسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ١] وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. [الأعراف: ١٤٢].
وقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُعْطِ الْعَطِيَّةَ تَلْتَمِسُ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَلَا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِكَ عَلَى رَبِّكَ تَسْتَكْثِرُهُ وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ خُصَيْفٌ عَنْ مجاهد في قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَالَ: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَ: تَمْنُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَضْعُفُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ تَسْتَكْثِرُهُمْ بِهَا تَأْخُذُ عَلَيْهِ
(١) البيت للسموأل في ديوانه ص ٩٠، وشرح شواهد المغني ٢/ ٥٣١، ومغني اللبيب ١/ ١٩٦، وله أو لعبد الملك بن عبد الرّحيم الحارثي المعروف بالجلاح الحارثي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٠، والمقاصد النحوية ٢/ ٧٦، ولدكين بن رجاء في الشعر والشعراء ٢/ ٦١٢.
(٢) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص ١٢، ١٣، والبيت الأول في الجنى الداني ص ٣٥، وخزانة الأدب ١١/ ٢٢٢، والدرر ٣/ ١٦، وشرح شواهد المغني ١/ ٢٠، والمقاصد النحوية ٤/ ٢٨٩، وتاج العروس (عنز)، (زمع)، (دلل)، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤/ ٦٧، ورصف المباني ص ٥٢، وشرح الأشموني ٢/ ٤٦٧، ومغني اللبيب ١/ ١٣، وهمع الهوامع ١/ ١٧٢، والبيت الثاني في أساس البلاغة (ثوب)، وكتاب الجيم ٧/ ٢٥٧، ولسان العرب (ثوب)، وبلا نسبة في لسان العرب (نظف)، وتاج العروس (ثوب).

صفحة رقم 273
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
محمد حسين شمس الدين
الناشر
دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة
الأولى - 1419 ه
عدد الأجزاء
1
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية