
هو - واللَّه أعلم - مقابل قولهم: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) وجواب لهم يقول: الذين كذبوا شعيبًا هم الخاسرون لا الذين اتبعوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).
قيل: كأن لم يعيشوا فيها، ولم ينعموا قط.
وقيل: كأن لم يقيموا فيها.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: يقال: غنينا بمكان كذا وكذا، أي: أقمنا، ويقال للمنازل: مغان، واحدها: مغنى، ويقال: كأن لم يغنوا فيها، أي: كأن لم يكونوا فيها قط.
وهو - واللَّه أعلم - لما كانوا يستقلون نعم اللَّه عليهم، ويستحقرونها، حتى قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، وقوله: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ)، ونحوه، وكله إخبار عن قطع آثارهم أنه لم يبق منهم أحد يحزن عليهم أو يبكي عليهم، حتى قال شعيب: (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ).
وجائز أن يكون قول شعيب حيث قال: (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) حين علم أنهم يهلكون، وينزل بهم العذاب، أي: لا أحزن عليهم على ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، قال ذلك في الوقت الذي قال: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ) ويقول: كيف أحزن على قوم وعملهم ما ذكر.
وقوله: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ).
حين رآهم هلكى، فقال: فكيف آسى على قوم، أي: كيف أحزن على قوم قد كذبوني، واختاروا عداوتي، وصاروا علي أعداء، فكيف أحزن عليهم بالهلاك، وهم أعدائي.
وقوله: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ). قد ذكرنا هذا.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).

في الآية إضمار - واللَّه أعلم - من وجهين:
أحدهما: قوله: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها المكذبين له بالبأساء، وما ذكر، وإلا لا يحتمل أن يرسل إليهم رسولًا ثم يأخذهم بما ذكر من غير أن كان منهم رد وتكذيب له.
والثاني: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ) أهلكناها (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا) وقبل الهلاك (بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ثم لم يأخذ اللَّه قومًا بالهلاك قبل أن يبعث رسولًا إليهم، وقبل: أن يغتروا هم ما أنعم عليهم بأنفسهم؛ كقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا....) الآية؛ وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقال: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، وغير ذلك من الآيات، أخبر أنه لا يأخذهم بالعذاب والهلاك إلا بعد قطع العذر لهم من جميع الوجوه، وإن كان له الإهلاك قبل أن يبعث إليهم الرسول لما ركب فيهم من العقول السليمة مما بها يوصل إلى فهم كل ما جعل فيهم من آثار وحدانيته وآيات ربوبيته، وما جعل لهم من السمع والنطق ما به يوصل إلى سمع كل ما غاب والنطق بكل ما يريدون، ما لم يجعل ذلك لغيرهم من البهائم، وما أنعم عليهم من تصوير الصور ما لم يتمن أحد تحويله منها إلى غيرها من الصور، لكنه لا يهلكهم إلا بعد بعث الرسل إليهم لما أن الخلق على مراتب؛ منهم من يفهم بالعقل لا يحتاج إلى معونة السمع، وهم الحكماء والعلماء الذين يدركون الأشياء بالبديهة، ومنهم من لا يدرك إلا بمعونة السمع وهم كالصبيان، إنهم لا يدركون إلا بالسمع وفضل التنبيه، ومنهم من لا يدرك بالعقل ذلك ولا بالسمع حتى تصيبهم الشدائد والعبر في أنفسهم وفيما أنعم عليهم، وهم كالبهائم الذين لا عقل لهم ولا سمع، ولكن يعرفون الشدائد وما يصيبهم من البلاء، فعلى ذلك يمتحنهم عَزَّ وَجَلَّ، ويبتليهم بالشدائد والبلايا أولًا، فإن رجعوا عن ذلك وعرفوا نعمه، وإلا أهلكهم بعد ذلك فعند ذلك ينتهون ويتذكرون، وذلك قوله، (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).