
هذين القولين ويشبههما، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضا، قوله: وَلا تَقْعُدُوا نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول، وقوله تعالى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى وسَبِيلِ اللَّهِ المفضية إلى رحمته، والضمير في بِهِ يحتمل: أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل»، وتقدم القول في مثل قوله:
وَتَبْغُونَها عِوَجاً في صدر السورة، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد، وقيل: أغناهم بعد فقر، فالمعنى على هذا: إذ كنتم قليلا قدركم، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة.
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
المعنى: وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم عليّ وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم، وفي قوله: فَاصْبِرُوا قوة التهديد والوعيد، هذا ظاهر الكلام وأن المخاطبة بجميع الآية للكفار، وحكى منذر بن سعيد عن ابن عباس أن الخطاب بقوله:
فَاصْبِرُوا للمؤمنين على معنى الوعد لهم، وقاله مقاتل بن حيان، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان المعنى «فاصبروا» يا معشر الكفار.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول الجماعة.
وتقدم القول في معنى الْمَلَأُ ومعنى الاستكبار، وقولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ تهديد بالنفي، والقرية المدينة الجامعة للناس لأنها تقرت أي اجتمعت، وقولهم أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معناه أو لتصيرن، وعاد: تجيء في كلام العرب على وجهين. أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف، ومنه قول الشاعر: [السريع]
إن عادت العقرب عدنا لها | وكانت النعل لها حاضرة |
ألا ليت أيام الشباب جديد | وعصرا تولّى يا بثين يعود |
فإن تكن الأيام أحسن مرة | إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب |
تلك المكارم لاقعبان من لبن | شيبا بماء فعادا بعد أبوالا |
والظاهر في قوله: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيما ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء، مثل قول الشاعر: بقيت وفري.
وكما تقول «افتريت على الله» إن كلمت فلانا، وافْتَرَيْنا معناه شققنا بالقول واختلفنا. ومنه قول عائشة: من زعم أن محمدا ﷺ رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ونجاة «شعيب» من ملتهم كانت منذ أول أمره، ونجاة من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر، وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد.
قال القاضي أبو محمد: والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة، وهذا أظهر ما يحتمل القول، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات، فلما قال لهم: إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول: هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا صفحة رقم 428