آيات من القرآن الكريم

فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ

٤- إنّ نتيجة التّمرّد والعتو والطّغيان هي الانهيار والدّمار، وقد دمّر الله عادا بسبب تكذيبهم بآيات الله، وكفرهم وعدم إيمانهم، فعصف بهم بالرّيح العاتية.
٥- نجّى الله هودا وجماعة الإيمان لاستحقاقهم الرّحمة بسبب إيمانهم، وأنزل على عاد عذاب الاستئصال الذي هو الرّيح، معجزة لهود عليه السّلام.
قصة صالح عليه السّلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٩]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)

صفحة رقم 267

الإعراب:
آيَةً حال، عاملها معنى الإشارة، وكانوا سألوه أن يخرجها من صخرة عينوها بُيُوتاً حال مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النّحت. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بإعادة العامل الجارّ، كقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ [الزّخرف ٤٣/ ٣٣] : فقوله: لِبُيُوتِهِمْ بدل من قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ وهذا يدلّ على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه.
أما الضمير مِنْهُمْ فإن رجع إلى قَوْمِهِ فهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وإن رجع إلى لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فهو بدل بعض من كلّ. وعلى الأوّل يكون المعنى: أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، وعلى الثاني لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، ويدلّ على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.
البلاغة:
هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ إضافة تشريف وتكريم.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ التّنكير للتّقليل والتّحقير، أي لا تمسّوها بأدنى سوء.
مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ثَمُودَ قبيلة عربية كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى قرب تبوك، سمّوا باسم جدّهم: ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. فإذا كانت ممنوعة من الصّرف فيراد بها القبيلة، وإذا صرفت يراد بها الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر.
أَخاهُمْ صالِحاً هو نبيّهم، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا، وأخوته لثمود كأخوة

صفحة رقم 268

هود لقومه: أخوة في القبيلة أو الجنس، أي من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النّسب لا في الدّين.
بَيِّنَةٌ معجزة ظاهرة الدّلالة من الله على صدقه. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر أو ضرب.
وَاذْكُرُوا تذكّروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي في الأرض. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أسكنكم فيها أو أنزلكم فيها، والأرض: أرض الحجر بين الحجاز والشام. مِنْ سُهُولِها قُصُوراً تسكنونها في الصيف. وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء. والنّحت: نحر الشيء الصّلب.
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تذكّروا نعم الله الكثيرة. وَلا تَعْثَوْا من العثيّ والعثو: الفساد.
اسْتَكْبَرُوا تكبّروا عن الإيمان به.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها بالذّبح، وأصل العقر: الجرح، وعقر الإبل: قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل. والذي عقرها هو: «قدار بن سالف» حيث قتلها بأمرهم بالسّيف، وإنّما نسب الفعل إليهم جميعا لأن العقر كان برضاهم وأمرهم، والآمر والرّاضي بالفعل: شريك في الجريمة.
وَعَتَوْا تمرّدوا مستكبرين. الرَّجْفَةُ الزّلزلة الشديدة من الأرض أو الحركة والاضطراب، والصّيحة من السّماء. جاثِمِينَ باركين على الرّكب، أو قاعدين لا حراك بهم، والمراد: أنهم أصبحوا جثثا هامدة ميتة لا تتحرّك.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله في أوّل السّورة قصة آدم الدّالة على قدرته وتوحيده وربوبيته، وأقام الأدلّة الدّامغة على صحّة البعث بعد الموت، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وموقف أقوامهم المعاندين لهم، فذكر قصة نوح ثمّ قصة هود، ثم قصة ثمود، وكان قوم ثمود يتلون قوم عاد في الوجود والظّهور بين الأمم، كما قال تعالى على لسان صالح عليه السّلام: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ.
أضواء من التاريخ:
ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح، وهو أخو جديس بن عائز، وكذلك قبيلة طسم، كلّ هؤلاء من العرب العاربة البائدة قبل إبراهيم الخليل عليه السّلام.

صفحة رقم 269

وكانت ثمود- قوم صالح- بعد عاد، ورثوا أرضهم وديارهم، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى وما حوله. ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، تعرف ب «فجّ النّاقة». وحجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة. وقد كان يقال لعاد: عاد إرم، إلى أن هلكوا، فقالوا: ثمود إرم.
وقد مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ديارهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها القدور، فأمرهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم، حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها النّاقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال:
«إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم».
وروى أحمد أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم»
وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه.
وكانت قبيلة ثمود مثل قوم نوح وعاد تدين بعبادة الأصنام يشركونها مع الله في العبادة، وآتاهم الله نعما كثيرة، فأرسل الله إليهم صالحا نبيّا عليه السّلام، واعظا لهم ومذكّرا لهم بنعم الله وآياته الدّالة على توحيده وأنه لا شريك له، وأنه يجب إفراده بالعبادة دون سواه.
فآمن به المستضعفون من قومه، وكفر الملأ (السّادة والأشراف والقادة) ولم يؤمنوا به، وعصوا وتكبروا وكفروا، وأنكروا نبوته: أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر ٥٤/ ٢٥]، وقالوا للمستضعفين: أَتَعْلَمُونَ

صفحة رقم 270

أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
[الأعراف ٧/ ٧٥]، فأجاب المستكبرون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف ٧/ ٧٦].
وطلب المستكبرون منه آية على صدقه، فأيّده الله بالنّاقة وقال لهم: لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء ٢٦/ ١٥٥]، إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر ٥٤/ ٢٧- ٢٨]، فكانت تشرب ماء البئر أو النّهر الصغير في يوم، ويشربون منه في اليوم التالي، ويحلبون منها ما شاؤوا فلا ينضب حليبها.
وأمرهم ألا يمسّوها بسوء، وأن يذروها تأكل في أرض الله، وبذل صالح عليه السّلام قصارى جهده في تذكير قومه بنعم الله تعالى عليهم، ونهاهم عن أن يعثوا في الأرض مفسدين.
فتكبّروا عن الإيمان به، واستخفّوا به، وعاندوه، وعتوا عن أمر ربّهم، وعقروا النّاقة، عقرها قدار بن سالف بأمرهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقالُوا: يا صالِحُ: ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف ٧/ ٧٧]، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر ٥٤/ ٢٩].
فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود ١١/ ٦٥]، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٧٩]، ثم نزل عليهم العذاب عذاب الرّجفة (الواقعة الشديدة من صوت الرّعد، المصحوبة بقطعة من نار تحرق ما أتت عليه) أو عذاب الصيحة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف ٧/ ٧٨]، وقال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر ٥٤/ ٣٠- ٣١]، وعبّر تعالى عنها أيضا بالصاعقة، وتارة بالطاغية. وكلّ ذلك صحيح لأن الصاعقة تكون

صفحة رقم 271

مصحوبة بصوت شديد، وقد تصحب برجفة أشبه بالزّلزال، وقد تكون في مكان ويطغى تأثيرها إلى مكان آخر.
ونجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من العذاب، فذهبوا إلى الرّملة بنواحي فلسطين لأنها بلاد خصبة. وكان عددهم كما ذكر الألوسي مائة وعشرين، وأما الهالكون فكانوا أهل خمسة آلاف بيت: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود ١١/ ٦٨].
وذكر اسم صالح في القرآن تسع مرّات، في سورة الأعراف في الآيات:
(٧٣، ٧٥، ٧٧)، وفي سورة هود في الآيات: (٦١، ٦٢، ٦٦، ٨٩)، وفي سورة الشعراء في الآية (٤٢). وصالح كما ذكر البغوي: هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود.
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ليس أخا في الدين، وإنما من القبيلة أو من جنسهم البشري لا من الملائكة.
فقال صالح ثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم من إله تعبدونه غيره، وهكذا جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاتبة. فأخذ عليهم العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنّه، فلما أعطوه على

صفحة رقم 272

ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، والله على كل شيء قدير.
فآمن عندئذ رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعر بن جلهس.
وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبون، فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم «١»، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر ٥٤/ ٢٨] وقال أيضا: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء ٢٦/ ١٥٥] قال ابن عباس: كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.
قال لهم: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي أنها دليل قاطع على صدق نبوتي، وأضاف الناقة إلى الله للتشريف والتكريم وتعظيم شأنها لأنها جاءت من عنده مكونة من غير أم ولا أب، بل من صخرة عظيمة.
ثم أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ما شاءت، وألا يتعرضوا لها بسوء في نفسها ولا في أكلها، فإنكم إن فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم.
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها وعبادته تعالى فقال:
وَاذْكُرُوا... أي تذكروا نعم الله وأفضاله وإحسانه عليكم، إذ جعلكم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران وقوة البأس، وأورثكم أرضهم وديارهم، وأسكنكم منازلهم، تتخذون من سهولها قصورا عالية، بما ألهمكم من حذق الصناعة

(١) تفسير الكشاف: ١/ ٥٥٥- ٥٥٦، تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٢٨ [.....]

صفحة رقم 273

والاستفادة من التراب بصنع اللبن والآجر ومن سهولة الأرض، وتنحتون من الجبال أحجارا تبنون بها بيوتا محصنة، يسكنونها في الشتاء لقوتها، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون في السهول بقية الفصول للزراعة.
فتذكروا هذه النعم الكثيرة العظيمة، واشكروا الله عليها بتوحيده وإفراده بالعبادة، وإياكم أن تفسدوا في الأرض، بأي نوع من أنواع الفساد.
فقال الملأ أي الأشراف والسادة والزعماء للفقراء المستضعفين الذين هم أسرع الناس عادة إلى إجابة دعوة الرسل، وهم المؤمنون منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ وهو سؤال يراد به التهكم والسخرية والاستهزاء بهم. فأجابهم هؤلاء: نحن نعلم يقينا أنه رسول من عند ربه بلا ريب ولا شك، وإنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مؤمنون مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله. سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمرا معلوما لا شك فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون. وقوله: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا، كما بينا لأن المستضعفين هم المؤمنون، وهو بدل البعض من الكل، وهو الراجح.
فأجاب الكفرة الذين استكبروا عن الإيمان برسالة صالح: إنا بالذي صدقتم وآمنتم به من نبوة صالح جاحدون منكرون.
وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به صالح كافرون لأن ذلك يتضمن شهادتهم على أنفسهم بإثبات رسالته، ثم بإنكارها وجحودها عنادا. وقال الزمخشري:
وضعوا: آمَنْتُمْ بِهِ موضع: أرسل به ردّا لما جعله المؤمنون معلوما وجعلوه مسلّما.
ولما اشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتل الناقة، ليستأثروا بالماء كل يوم، فاتفقوا على قتلها، وعقروا الناقة أي نحروها، ونسب

صفحة رقم 274

الفعل إليهم جميعا مع أن قاتلها واحد، كما جاء في سورة القمر فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [٢٩] لرضاهم جميعا بفعله، وكما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس ٩١/ ١٤- ١٥]
وجاء في صحيح البخاري مرفوعا: «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة».
وعتوا عن أمر ربهم أي تمردوا عن اتباع رسالة صالح وأعرضوا عن امتثال أمر ربهم، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام، من قوله:
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ... أو شأن ربهم وهو دينه. وقالوا: يا صالح، ائتنا بما وعدتنا به من العذاب والانتقام، إن كنت رسولا، وتدعي الصدق فيما تبلغ به عن الله، وهذه سمة الحمقى والسفهاء والأغرار.
روى الإمام أحمد والحاكم عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها. وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أخمدهم الله بها من تحت أديم السماء، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وفي سورة هود: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وفي سورة فصلت: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وفي سورة الذاريات: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ والمراد بالجميع واحد: وهو الصيحة الشديدة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها. وسببها اصطكاك الأجرام السماوية.
فأصبحوا في دارهم أي في بلادهم أو في مساكنهم جثثا هامدة موتى لا يتحركون.

صفحة رقم 275

فتولى عنهم صالح عليه السلام، والظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولّي مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، حزنا عليهم.
وقال: يا قوم، لقد بذلت فيكم منتهى وسعي وجهدي في إبلاغكم النصيحة لكم، ولكنكم لا تحبون الناصحين، فوجبت عليكم كلمة العذاب. وهذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت.
وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار، وروي غير ذلك.
ونداء صالح عليه السلام لقومه بعد الموت
كنداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعض قتلى قريش ببدر، بعد دفنهم في القليب (البئر غير المطوية أو غير المبنية) :«يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!».
قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري- فيما أخرجه البخاري وغيره- قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أقوام قد جيّفوا؟ - أي أجساد لا أرواح لها أو فيها وقد أنتنوا- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون.

صفحة رقم 276

فقه الحياة أو الأحكام:
ثمود «١» مثل عاد من القبائل العربية العاربة، بعث الله إليهم صالحا نبيا، فهم قوم صالح عليه السلام، وكان صالح من أوسطهم نسبا، وأفضلهم حسبا، فدعاهم إلى الله تعالى حتى شاب، فلم يتبعه إلا قليل مستضعفون. وقال المستكبرون: نحن كافرون بما جاء به صالح.
قال الرازي: وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى «٢».
واستدل بقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تنبون القصور بكل موضع، وقوله: وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها. وبقوله: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف ٧/ ٣٢]
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن زيد بن جدعان مرسلا: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه».
ومن آثار النعمة: البناء الحسن، والثياب الحسنة.
وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والخطيب عن جابر وهو ضعيف: «إذا أراد الله بعبد شرا، خضر

(١) ثمود: لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة كما ذكر سابقا، وقال أبو حاتم: لم ينصرف لأنه اسم أعجمي، قال النحاس: وهذا غلط لأنه مشتق من الثّمد: وهو الماء القليل.
(٢) تفسير الرازي: ١٤/ ١٦٥

صفحة رقم 277

له في الطين واللّبن حتى يبنى»
وفي خبر آخر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود: «من بنى فوق ما يكفيه، كلّف يوم القيامة أن يحمله على عنقه»
وأخرج الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما أنفق المؤمن من نفقة، فإن خلفها على الله عز وجل، إلا ما كان في بنيان أو معصية».
ودل قوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ على أن الكفار منعم عليهم.
وفي قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا..
دلالة على أن السادة والزعماء هم الذين تكبروا عن الإيمان، شأنهم في ذلك أمثالهم مع كل نبي ومصلح يتمردون ويستعلون عليه. وفيه دلالة أيضا على أن المستضعفين هم الذين آمنوا برسالة صالح عليه السلام، وهو الشأن الغالب أيضا مع كل نبي، يبادر الضعفاء والفقراء إلى الإصغاء لكلمة الحق والهدى والإيمان، فيكونون أهل الجنة، وأولئك المتكبرون هم أهل النار والعذاب في الدنيا.
وأما قول صالح: وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ...
فيحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم، ويحتمل أنه قاله بعد موتهم،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم لقتلى بدر: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يقدرون على الجواب».
قال القرطبي: والأول أظهر، يدل عليه: وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي لم تقبلوا نصحي. وذكر ابن كثير وغيره:
أن صالحا قال لهم ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا.
وقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والفاء للتعقيب: يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام، لكن ليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى: فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
ولا تناقض بين تعبير الرجفة هنا، والطاغية والصيحة والصاعقة، كما ذكرنا

صفحة رقم 278
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية