آيات من القرآن الكريم

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ

فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها
[الْأَنْعَامِ: ١٠٤] قَالَ زُهَيْرٌ:

وَأَعْلَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ عامَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمِي وَالْعَامِي أَنَّ الْعَمِيَ يَدُلُّ عَلَى عَمًى ثَابِتٍ.
وَالْعَامِيَ عَلَى عَمًى حَادِثٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَاهُمْ كَانَ ثَابِتًا رَاسِخًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى:
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦].
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قِصَّةُ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: انْتَصَبَ قَوْلُهُ: أَخاهُمْ بقوله: أَرْسَلْنا [الأعراف: ٥٩] فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هُودًا مَا كَانَ أَخًا لَهُمْ فِي الدِّينِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ أَخَا قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَمْ لَا؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ جِنْسِهِمْ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَكَفَى هَذَا الْقَدَرُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ وَالْمَعْنَى أَنَّا بَعَثْنَا إِلَى عَادٍ وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَهُوَ الْبَشَرُ لِيَكُونَ أَلْفُهُمْ وَالْأُنْسُ بِكَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ أَكْمَلَ وَمَا بَعَثْنَا إِلَيْهِمْ شَخْصًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ مِثْلَ مَلِكٍ أَوْ جِنِّيٍّ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَخَاهُمْ: أَيْ صَاحِبَهُمْ وَرَسُولَهُمْ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي صَاحِبَ الْقَوْمِ أَخَ الْقَوْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: ٣٨] أَيْ صَاحِبَتَهَا وَشَبِيهَتَهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ وَإِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ» يُرِيدُ صَاحِبَهُمْ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالُوا نَسَبُ هود هذا: هود بن شالخ بن ارفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَأَمَّا عَادٌ فَهُمْ قوم كانوا باليمن بالأحقاف قال ابن اسحق: والأحقاف الرمل الذي بين عمان الى حضر موت.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُوَافِقَةٌ لِلْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: فِي قِصَّةِ نوح عليه السلام: فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الأعراف: ٥٩] وفي قصة هود: قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَالْفَرْقُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى دَعْوَاهُمْ وَمَا كَانَ يُؤَخِّرُ الْجَوَابَ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ لَحْظَةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا هُودٌ فَمَا كَانَتْ مُبَالَغَتُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَا جَرَمَ جَاءَ «فَاءُ التَّعْقِيبِ» فِي كَلَامِ نُوحٍ دون كلام هود. والثاني: ان فِي قِصَّةِ نُوحٍ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

صفحة رقم 299

[الأعراف: ٥٩] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون: ٣٢] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ فَلَا جَرَمَ أَخْبَرَ نُوحٌ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَأَمَّا وَاقِعَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِوَاقِعَةِ نُوحٍ وَكَانَ عِنْدَ النَّاسِ عِلْمٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ قَرِيبًا فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى هُودٌ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَّقُونَ وَالْمَعْنَى تَعْرِفُونَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا لم يتقوا لله وَلَمْ يُطِيعُوهُ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي اشْتَهَرَ خَبَرُهُ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ قَوْلُهُ: أَفَلا تَتَّقُونَ إِشَارَةً إِلَى التَّخْوِيفِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [الأعراف: ٦٠] وَقَالَ فِي قِصَّةِ هُودٍ:
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وَالْفَرْقُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَشْرَافِ قَوْمِ هُودٍ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أَسْلَمَ وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ فَأُرِيدَتِ التَّفْرِقَةُ بِالْوَصْفِ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَشْرَافِ قَوْمِ نُوحٍ مُؤْمِنٌ.
وَالْفَرْقُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَحَكَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ بِالطُّوفَانِ الْعَامِّ وَكَانَ أَيْضًا مُشْتَغِلًا بِإِعْدَادِ السَّفِينَةِ وَكَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي إِعْدَادِ السَّفِينَةِ فَعِنْدَ هَذَا الْقَوْمُ قَالُوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: ٦٠] وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ الْمَاءِ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ أَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا ذَكَرَ شَيْئًا/ إِلَّا أَنَّهُ زَيَّفَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَنَسَبَ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى السَّفَاهَةِ وَقِلَّةِ الْعَقْلِ فَلَمَّا ذَكَرَ هُودٌ هَذَا الْكَلَامَ فِي أَسْلَافِهِمْ قَابَلُوهُ بِمِثْلِهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى السَّفَاهَةِ ثُمَّ قَالُوا: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الظَّنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَطْعُ وَالْجَزْمُ وَوُرُودُ الظَّنِّ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ: كَانَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى الظَّنِّ لَا عَلَى الْيَقِينِ فَكَفَرُوا بِهِ ظَانِّينَ لَا مُتَيَقِّنِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الشَّكِّ وَالتَّجْوِيزِ فِي أُصُولِ الدِّينِ يُوجِبُ الْكُفْرَ.
وَالْفَرْقُ الْخَامِسُ: بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٦٢] وَأَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَنْصَحُ لَكُمْ وَهُوَ صِيغَةُ الْفِعْلِ وَهُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ وَهُوَ صِيغَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ زَادَ فِيهِ كَوْنَهُ أَمِينًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ سَاعَةً فَسَاعَةً وَأَمَّا صِيغَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي السَّفَاهَةِ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَانَ يَعُودُ إِلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نُوحٍ: ٥] فَلَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَوْدُ إِلَى تَجْدِيدِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَقَالَ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَمَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُثَبَّتًا فِي تِلْكَ النَّصِيحَةِ مُسْتَقِرًّا فِيهَا. أَمَّا لَيْسَ فِيهَا إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا حَالًا فَحَالًا وَيَوْمًا فَيَوْمًا وَأَمَّا الْفَرْقُ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُودًا وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ

صفحة رقم 300

أَمِينًا. فَالْفَرْقُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَى شَأْنًا وَأَعْظَمَ مَنْصِبًا فِي النُّبُوَّةِ مِنْ هُودٍ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ أَسْرَارِ حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ هُودٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمْسَكَ هُودٌ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ وَصْفَ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ أَمِينًا: وَمَقْصُودٌ مِنْهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ عَلَى الْأَمَانَةِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ أَمِينًا تَقْرِيرًا لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: كُنْتُ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى أَمِينًا فِيكُمْ مَا وَجَدْتُمْ مِنِّي غَدْرًا وَلَا مَكْرًا وَلَا كَذِبًا وَاعْتَرَفْتُمْ لِي بِكَوْنِي أَمِينًا فَكَيْفَ نَسَبْتُمُونِي الْآنَ إِلَى الْكَذِبِ؟
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الثِّقَةُ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنًا فَهُوَ آمِنٌ وَأَمِينٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ فَهُوَ لَمْ يُقَابِلْ سَفَاهَتَهُمْ بِالسَّفَاهَةِ بَلْ قَابَلَهَا بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الِانْتِقَامِ أَوْلَى كَمَا قَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: ٧٢].
أَمَّا قَوْلَهُ: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فَهُوَ مَدْحٌ لِلنَّفْسِ بِأَعْظَمِ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْلَامُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْحَ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ.
وَالْفَرْقُ السَّادِسُ: بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: ٦٣] وَفِي قِصَّةِ هُودٍ أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى أَنَّ فَائِدَةَ الْإِنْذَارِ هِيَ حُصُولُ التَّقْوَى الْمُوجِبَةِ لِلرَّحْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَى إِعَادَتِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَاجَةٌ وَأَمَّا بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَكُلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: ٦٩].
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية] وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخُلَفَاءِ وَالْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةِ قَدْ مَضَى فِي مَوَاضِعَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَذَكُّرَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَزَوَالَ النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَقَدْ ذَكَرَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هاهنا نَوْعَيْنِ مِنَ الْإِنْعَامِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَذَلِكَ بِأَنْ أَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ مِقْدَارٌ وَجُثَّةٌ وَحَجْمِيَّةٌ فَكَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ الزِّيَادَةِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُوَى وَالْقُدَرَ مُتَفَاوِتَةٌ فَبَعْضُهَا أَعْظَمُ وَبَعْضُهَا أَضْعَفُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْبَتَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً عَظِيمَةً وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ فِي مَعْرِضِ الْأَنْعَامِ فَائِدَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ أَطْوَلُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَأَقْصَرُهُمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَقَالَ آخَرُونَ: تِلْكَ الزِّيَادَةُ هِيَ مِقْدَارُ مَا تَبْلُغُهُ يَدَا إِنْسَانٍ إِذَا رَفَعَهُمَا فَفُضِّلُوا عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَالَ قَوْمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كَوْنَهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَشَارِكِينَ فِي الْقُوَّةِ

صفحة رقم 301
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية