في كل ما يحتاج إليه الناس، لعل الشاكرين يتذكرون فيشكروا الله على ما أنعم عليهم. وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك، مثل قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢].
قصة نوح عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
الإعراب:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: وصف لإله على الموضع لأن موضعه رفع. وقرئ بالجر صفة لإله على اللفظ.
يا قَوْمِ نداء مضاف، ويجوز: يا قومي على الأصل أُبَلِّغُكُمْ إما كلام مستأنف بيان لكونه: رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أو يكون صفة لرسول. وَأَنْصَحُ لَكُمْ زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة.
أَوَعَجِبْتُمْ فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. والهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ جواب قسم محذوف عَذابَ يَوْمٍ المراد هنا يوم القيامة الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم رِسالاتِ رَبِّي ما أوحي إليّ من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر ضَلالٍ عدول عن طريق الحق مُبِينٍ بيّن وَأَنْصَحُ لَكُمْ أريد الخير، وأرشد إلى المصلحة مع إخلاص النية ذِكْرٌ موعظة عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ، أي على لسان رجل من جنسكم لِيُنْذِرَكُمْ العذاب إن لم تؤمنوا الْفُلْكِ السفينة عَمِينَ جمع عم، أي ذو عمى عن الحق، والأعمى: أعمى البصر.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتصل به، شرع في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الأول فالأول، مبتدئا بنوح عليه السلام الذي هو أبو البشر الثاني، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام.
والهدف من إيراد قصص الأنبياء: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول دعوة الأنبياء ليس مقتصرا على قريش قوم محمد عليه الصلاة والسلام، بل هذا موقف متبع في جميع الأمم السابقة، والمصيبة إذا عمت خفت، وفي ذلك تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتخفيف على قلبه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [هود ١١/ ١٢٠]. وفي القصص بيان العاقبة: عاقبة المنكرين وهي اللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة، وعاقبة المؤمنين وهي العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
وفي إيراد القصص أيضا التنبيه إلى أن الله وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، فلا يهملهم، بل ينتقم منهم. وفي هذا من العظة والعبرة للأجيال ما يكفي:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف ١٢/ ١١١].
وسرد القصة من غير تحريف ولا خطأ دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان
أميا لا يقرأ ولا يكتب، إذ يدل ذلك على أنه إنما عرف القصة بالوحي من الله، مما يدل على صحة نبوته.
أضواء على قصة نوح من التاريخ:
نوح عليه السلام: هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ: وهو إدريس «١» بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر.
وهو أول الرسل إلى المشركين، كما
في حديث الشفاعة في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض»
وهو أول الرسل بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل. وقد أرسله الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وكان نجارا.
وقال ابن عباس: وكان ابن أربعين سنة. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه. وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وذكر الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام. ذكر الزهري أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح.
والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل السود من ولد حام بن نوح.
والترك والبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح.
كما ذكر القرطبي بدليل الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النّبي صلّى الله عليه وسلّم إدريس قال له:
«مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح»
ولم يقل له: «بالابن الصالح» كآدم ونوح وإبراهيم.
وكان أول ما عبدت الأصنام: أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صورهم، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.
فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى رسوله نوحا، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ....
وذكر نوح في (٤٣) ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم، وذكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح. ومضمون قصته: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا عبادة الأصنام، ولكنهم عاندوه وعارضوه وآذوه، واتبعوا بعض زعمائهم، ومكروا مكرا عظيما، وصمموا ألا يذروا عبادة: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وقالوا في حماقة وكبرياء: إنك جادلتنا فأكثرت جدالنا، وإنا لن نترك ما نحن عليه، فأتنا بالعذاب الذي تهددنا به، فرد عليهم بأن تعذيبهم بيد الله تعالى.
ولما يئس نوح من إيمان قومه بعد دعوتهم إليه ألف سنة إلا خمسين، أمره الله تعالى بصناعة سفينة أداة النجاة، وكانوا كلما مروا عليه سخروا منه ومن عمله.
فلما أتمها، وأمره الله تعالى أن يأخذ معه أهله إلا زوجته، وأن يأخذ من آمن معه من قومه، وكانوا ستة فقط، وقيل: أربعين رجلا وامرأة، وأن يصحب معه من أجناس الحيوان والطير والوحش زوجين اثنين.
ثم فار تنور أهله بالماء، وبدأ تفجر الماء الكثير من كل مكان حتى عمّ الطوفان قومه وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان، فهلكوا حتى ابنه الذي أبى الركوب في السفينة قائلا: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ
[هود ١١/ ٤٣]. واستوت السفينة على جبل الجودي في نواحي ديار بكر من جبال أرمينية جنوب تركيا: وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود ١١/ ٤٤].
وللعلماء رأيان في عموم طوفان الأرض، فقال جماعة: لقد عمّ جميع أنحاء الأرض، بدليل وجود بقايا حيوانية مائية في أعالي الجبال. وقال آخرون: لم يكن الطوفان عاما، وإنما كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي بلاد الشرق الأوسط وما جاورها.
ومن المعلوم أن البلاء يعم والرحمة تخص، والنقمة لا تقتصر على الظالمين، فتشمل الأطفال الأبرياء والوحوش والطيور: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥].
وكان نوح قد دعا بدعوتين: الأولى للمؤمنين والثانية على الكافرين، أما الأولى فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. [نوح ٧١/ ٢٨].
والثانية هي: وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦- ٢٧].
وكان ابن نوح في عداد الهالكين لأنه كان ظالما كافرا، بدليل تمام الآية الأولى:
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً والظلم هو الكفر. وهذا ابن نوح حقيقة في رأي جماعة، وقال آخرون: إنه كان ابن امرأته من غيره، ولم يكن ابنا حقيقيا له.
وكانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، كما كانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ،
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
[التحريم ٦٦/ ١٠].
ولم ينص القرآن الكريم على حجم السفينة، وإنما أشير إليها بأنها الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس ٣٦/ ٤١] وبأنها ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر ٥٤/ ١٣] أي مسامير، وبأن صناعتها بوحي من الله وإلهام: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [هود ١١/ ٣٧].
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى لأهل مكة وغيرهم بأنه أرسل نوحا إلى قومه لإنذارهم، ودعوتهم إلى توحيد الله، وعبادته دون سواه، فقال لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي توجهوا بعبادتكم إلى الله وحده لا شريك له، إذ ليس لكم إله غير الله، تتوجهون إليه بالعبادة والدعاء وطلب الخير، فالله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت السموات والأرض، وهو الإله الحق القائم على هذا الكون، وهو المستحق للعبادة والتقديس والتعظيم.
إِنِّي أَخافُ... إني أخاف عليكم بسبب الشرك عذاب يوم عظيم من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله، وأنتم تشركون به. فاليوم العظيم: هو يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان.
وموقع الجملتين بعد قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ: أن الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته.
قال الملأ من قومه أي أشراف القوم والسادة والقادة: إنا لنراك في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام لفي غمرة من الضلال أحاطت بك، وهكذا حال الفجار يرون الأبرار في ضلالة، وهم أعداء دائما للهداة، كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين ٨٣/ ٣٢] وقوله: وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ
[الأحقاف ٤٦/ ١١].
قال نوح مجيبا لهم: يا قوم، ما أنا فيما أمرتكم به من توحيد الله وعبادته دون الأنداد بضال عن جادة الحق، ولكن أنا رسول من رب العالمين إليكم، ربّ كل شيء ومليكه، أهديكم إلى سبيل الرشاد، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. والضلالة كما ذكر الزمخشري أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال.
أبلغكم ما أرسلني به ربي من الدعوة إلى التوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما اشتمل عليه من جنة ونار، وثواب وعقاب، وأبيّن لكم أصول العبادات والمعاملات وأحكامها العامة وفضائل الأخلاق والآداب، وفي الجملة: كل الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر.
وأنصح لكم نصحا خالصا من شوائب المصلحة والمكر، بتحذيركم من عقاب الله على كفركم وتكذيبكم لي.
روي مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم».
وأنا في هذا التبليغ والنصح أعلم من الله وشؤونه مالا تعلمون من مصير هذا العالم، وإن إنذاري عاقبة الشرك بعذاب الدنيا، ونصحي لكم ناشئ عن علم يقيني لا تعلمونه. وهذا شأن الرسول: أن يكون مبلّغا فصيحا ناصحا عالما بالله.
ويكون المقصود من قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب العلوم المتعلقة بتوحيد الله وصفات جلاله، وعقابه الشديد في الدنيا والآخرة على عصيان أوامره.
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد».
ثم أخبر الله تعالى عن نوح أنه قال لقومه: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر يذكّركم، ووعظ من ربكن، على لسان رجل منكم، ليحذّرنكم عاقبة كفركم، وينذركم عاقبة الشرك في العبادة، وليعدّكم بالتقوى (أي التزام الأوامر واجتناب النواهي) لرحمته تعالى التي ينزلها على المؤمنين، أو ليوجد فيكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار، ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
ليس هذا بعجب أن يوحي الله إلى رجل من جنسكم، رحمة بكم، ولطفا وإحسانا إليكم، لينذركم، ولتتقوا نقمه ولا تشركوا به، وليرحمكم ربكم بطاعته والإيمان برسله.
لكنهم لم يصغوا لنداء الحق والإخلاص هذا، وتمادوا في تكذيبه ومخالفته من قبل الأكثرية، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما قال تعالى في موضع آخر:
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود ١١/ ٤٠] قيل: كانت عدتهم ثلاثة عشر: نوح وبنوه: سام وحام ويافث وزوجاتهم، وستة آخرون آمنوا به. وقيل: كانوا أربعين أو ثمانين: أربعين رجلا وأربعين امرأة.
فكان العقاب إغراقهم بالطوفان: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا... أي وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أو جحدوا بها بالطوفان، بسبب كفرهم وتماديهم في ضلالهم وشركهم، إنهم كانوا قوما عميا عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فقوله: عَمِينَ يراد به عمى القلوب غير مستبصرين، والفرق بين العمى والأعمى أن الأول بسبب عمى البصيرة، والثاني بسبب عمى البصر.
ونجّى الله رسوله نوحا والمؤمنين القائل معه.
وهكذا بيّن الله تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١].
فاحذروا أيها المخاطبون بدعوة الإسلام أن تكونوا مثلهم، أو تسيروا على منوالهم. وسيأتي في سورة هود تفصيل أشمل لهذه القصة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة نوح عليه السلام على أنه اهتم في دعوة قومه بثلاثة عناصر:
أحدها: أنه أمرهم بعبادة الله تعالى.
والثاني: أنه حكم أن لا إله غير الله. والمقصود من الكلام الأول: إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد، والثاني كالعلة للأول.
والثالث: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: وهو إما عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان. والمراد من الخوف: اليقين لأنه كان جازما بنزول العذاب بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون: بل المراد منه الظن والشك.
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله:
اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي، يجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام، فكان المعنى: اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره، حتى يتطابق النفي والإثبات.
ودلت الآية أيضا على أن الفجار والكفار يرون الأبرار والمؤمنين عادة في
ضلال، ويكونون دائما أعداء للهداة، فقد نسبوا نوحا عليه السلام في ادعاء النبوة إلى الضلال، وكذبوه وتمردوا على دعوته، وأمعنوا في إيذائه، وأصروا على عبادة الأصنام.
ومهمة الأنبياء عادة هي تبليغ الرسالة. وهناك فرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة وهو أن التبليغ معناه: التعريف بأنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه. وأما النصيحة: فهو الترغيب في الطاعة، والتحذير من المعصية، بالاعتماد على وسائل الترغيب والترهيب.
وذكرت الآيات الغاية التي من أجلها يبعث الله الرسول، فقال تعالى:
لِيُنْذِرَكُمْ وما لأجله ينذر، وقال: وَلِتَتَّقُوا وما لأجله يتقون، وقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إذ طاعة الرسول سبيل لاستدرار الرحمة الإلهية. فالمقصود من البعثة: الإنذار، والمقصود من الإنذار: التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى: الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي عبد الجبار المعتزلي: هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم: التقوى، والفوز بالرحمة.
والنبي أو الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم، فهو بشر من جنس البشر الذين يدعوهم إلى الله. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطباع. لذا تكرر في قصة كل نبي: رَجُلٍ مِنْكُمْ رَسُولًا مِنْهُمْ إلخ.
وكانت عاقبة قوم نوح المكذبين الجاحدين المشركين إغراقهم بالطوفان العظيم.