الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
وآيات سورة الرعد هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) والجملة التي نحن في صددها من هذا الباب. وفي سورة الزخرف آية فيها تفسير آخر مع تساوقها في المآل مع هذه الآيات وهي: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) أي إن الشيطان إنما يسلط على الذي يتعامى عن ذكر الله ويصرّ على طريق الكفر والإثم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
(١) فاحشة: معنى الكلمة كل ما عظم قبحه. وقد روي عن ابن عباس «١» أن الكلمة هنا كناية عن عادة الطواف في حالة العري.
(٢) القسط: هنا بمعنى العدل والحق. والكلمة من الأضداد حيث وردت كلمة القاسطين بمعنى المنحرفين عن الحق.
(٣) أقيموا وجوهكم: وجهوا وجوهكم.
(٤) مسجد: وردت هذه الكلمة في آيات عديدة في معنى السجود والصلاة مطلقا وفي معنى مكان السجود والصلاة. ويجوز أنها هنا في المعنى الأول كما يجوز أن تكون في المعنى الثاني بل يجوز أن تكون في المعنيين والله أعلم.
الآيات معطوفة على سابقاتها، وضمائر الجمع الغائب وبخاصة في الآية الأولى عائدة إلى لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ المذكورين في آخر الآية السابقة بحيث يصح القول إن الآيات استمرار في السياق السابق.
وقد احتوت تنديدا بالكفار الذين كانوا يقولون عن الفاحشة حينما يفعلونها إنهم وجدوا آباءهم عليها وإن الله قد أمرهم بها افتراء على الله بدون علم وبينة.
وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعلان بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء وإنما الذي أمر به هو العدل والاستقامة وتوجيه الوجوه في العبادة والسجود وأماكنهما إليه وحده بكل إخلاص، وبأن الله سيعيدهم كما بدأهم وبأن الناس فريقان فريق هداهم الله وفريق حقّت عليهم الضلالة. لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويتوهمون مع ذلك أنهم مهتدون.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون «١» لجملة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ منها أن الله يعيد الناس يوم القيامة على حالتهم في الدنيا كافرهم كافر ومؤمنهم مؤمن ومنافقهم منافق. ومنها أن ذلك متصل بالمقدر الأزلي عليهم فمن قدر عليه أن يكون مؤمنا وسعيدا أو كافرا أو منافقا أو شقيا صار كذلك حينما يخرج إلى الدنيا مهما بدا في بعض الظروف غير ذلك. وقد أورد المفسرون في صدد هذين القولين بعض الأحاديث النبوية منها حديث رواه مسلم وابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» «٢». وفي رواية أخرى:
«تبعث كلّ نفس على ما كانت عليه» «٣». وحديث رواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فليعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق
(٢) النصوص منقولة عن ابن كثير.
(٣) انظر المصدر نفسه.
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» «١». ومنها أنها بمعنى كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم. ومنها أنها بمعنى كما خلقكم عند خروجكم من الدنيا يعيدكم كذلك بعد الموت. أو كما خلقكم أولا يعيدكم ثانية. وأوردوا في صدد القول الثاني حديثا رواه ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيها الناس إنّكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» وقرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» [الأنبياء: ١٠٤] «٢». وقد رجّح الطبري أحد الأقوال الثلاثة الأخيرة واستبعد القولين الأولين واستأنس بآية سورة الأنبياء التي جاءت في الحديث النبوي الأخير. وفي هذا الصواب والسداد فيما هو المتبادر.
تعليق على جملة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الإشارة إلى مشهد من مشاهد الجدل قام بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار حول بعض التقاليد والطقوس التي كان يمارسها العرب اقتداء بآبائهم ويعتقدون أنها متصلة بأوامر الله وشريعته.
وقد قال المفسرون «٣» في سياق تفسير الآيات إن العرب كانوا يستحلون الطواف حول الكعبة في حالة العري وإن الآيات نزلت في تقبيح هذه العادة واعتبارها فاحشة منكرة. وروح الآيات تلهم صحة ذلك. ومما روي في معرض ذلك «٤» أن العرب كانوا حينما يريدون الطواف يخلعون ثيابهم العادية ويلبسون ثيابا أو مآزر خاصة حتى لا يطوفوا بالثياب التي قد يكونون اقترفوا بها ذنبا فإن لم
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن.
(٤) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص ١٩٧ وما بعدها مع كتب التفسير السابقة الذكر.
يجدوا هذه الثياب أو المآزر التي كان يؤجرها سدنة الكعبة الذين كانوا يسمون الأحماس للطائفين أو إذا لم يقدروا على دفع أجرتها خلعوا ثيابهم وطافوا عراة الرجال والنساء على السواء وكلّ ما كان من أمر النساء أنهن كن يضعن شيئا ما يسترن به مكان القبل. وكانوا يظنون أن ذلك من تقاليد الحج المتصلة بأمر الله والتي وضعها إبراهيم عليه السلام. فردّت عليهم الآيات ردا قويا متسقا مع المبادئ السامية التي يدعو القرآن إليها.
وقد احتوى الردّ تلقينات جليلة سواء في تنديدها بالتمسك بتقاليد الآباء مهما كان فيها من الفحش والباطل وسوء المظهر والذوق أم في تنديدها بعزو كل تقليد وعادة قديمة إلى الله بدون علم وبينة وبسبيل تقديس هذه العادات والتقاليد والتمسك بها. مع هتاف قوي بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء.
وكلمات فاحشة وفحشاء من ذوات المعاني العامة الشاملة حيث تشمل كل ما عظم قبحه من الرذائل الفردية والاجتماعية قولا وعملا مما نصّ عليه القرآن أو السنّة أو اعتبره جمهور المسلمين كذلك في كل ظرف ومكان بالاستئناس بالمبادئ العامة التي قررها القرآن والسنّة وقد جاءت هنا مطلقة للدلالة على هذا الشمول وبذلك يبرز مدى ما في الردّ القرآني من تلقين جليل.
تعليق على جملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ
وجملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ قد توهم أن الله تعالى يفعل ذلك بدون سبب من المهتدي والضالّ. غير أن بقية الآية تزيل هذا التوهم حيث احتوت تعليلا متسقا مع تقريرات القرآن المتكررة التي مرّت أمثلة منها وهو كونهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. وفي آية سورة يونس هذه: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) توضيح يزيل بدوره ذلك التوهم.
وهذا أيضا ملموح في آيات سورة البقرة [٢٦- ٢٧] وسورة الرعد [٢٧] وسورة
إبراهيم [٢٦] التي أوردناها سابقا أيضا. ولقد فرّع المؤولون والمفسرون عن هذه الجملة معاني أو أحكاما أخرى. فذهب الطبري إلى أن فيها دليلا على أن العذاب لا يقع فقط على الضالّ المعاند لربّه بل يقع على الضالّ الذي يظن أنه على هدى.
وهناك من فرّق بين من تحرّى واجتهد وظنّ أنه على هدى وبين من انحرف دون تحرّ واجتهاد تقليدا لغيره. فذهب إلى أن الأول يكون معذورا وأن العذاب لا يكون إلّا على الثاني. وهناك من قال إنه لا يكون بعد الإسلام عذر لمن يضلّ عن مبادئ الإسلام ومما فيها من عقائد وأحكام صريحة وقطيعة بنصّ قرآني أو سنّة نبوية ثابتة لأنّ فهم هذا من متناول الجميع. وإن العذر إنما يكون للمجتهد فيما ليس فيه نصّ صريح وقاطع بل ويكون له أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ. ويتبادر لنا أن القول الأخير هو الأوجه الأسدّ. وهناك من قال إن الآية تدلّ على أن مجرد الظنّ والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين وفي هذا وجاهة وسداد أيضا «١». والله تعالى أعلم.
تعليق على مَسْجِدٍ
وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه الآيات إنها تأتي في القرآن في معنى السجود والصلاة إطلاقا كما تأتي في معنى أماكنهما إطلاقا. غير أنها صارت علما على أماكن عبادة المسلمين ولا تطلق على أماكن غيرهم.
ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة فيها حثّ على بناء المساجد والتنويه بمنشئيها وحثّ على غشيانها وما يجب على المسلمين إزاءها من آداب، من ذلك حديث رواه الخمسة إلّا أبا داود عن عثمان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من بنى مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنّة وفي رواية بيتا في الجنة» «٢».
(٢) هذا الحديث والأحاديث التالية له منقولة من الجزء الأول من كتاب التاج ص ٢٠٥ وما بعدها.
وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح» وحديث عنه رواه الخمسة إلّا أبا داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه. الإمام العادل وشابّ نشأ في عبادة ربّه ورجل قلبه معلّق بالمساجد ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدّق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه». وروى أبو داود ومسلم عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا». وحديث رواه مسلم والنسائي والترمذي عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تطهّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنّور التامّ يوم القيامة» وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قلت يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال:
المساجد». وحديث رواه الخمسة عن أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» وحديث رواه الأربعة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البزاق في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنها». ولمسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيّئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النّخاعة تكون في المسجد لا تدفن». روى الثلاثة عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى نخامة في القبلة فحكّها بيده ورئي منه كراهية لذلك وشدّته عليه وقال إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه فلا يبزقنّ في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه. ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا». ويجب أن يلحظ القارئ أن أرضية مسجد رسول الله الذي كانت الآداب المذكورة في شأنه كانت ترابية يصحّ دفن البزاق فيها وأن هذا لا يقاس عليه بالنسبة لأرضية المساجد اليوم. وأن يلحظ أن ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم بردائه هو تنزيه لأرض المسجد وحينما لا يكون مع المرء
منديل يبزق فيه. وروى البخاري عن السائب بن يزيد: «أن عمر قال لرجلين من أهل الطائف رفعا صوتيهما في المسجد لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم». وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا». وروى الثلاثة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصاله بكفّه لا يعقر مسلما». وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أكل البصل والثوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وفي رواية من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته. وفي رواية من أكل من هذه البقلة فلا يقربنّ مساجدنا حتى يذهب ريحها». وروى الترمذي والنسائي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والاشتراء فيه وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة». وننبه على أن هناك روايات متواترة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل الوفود في مسجده من مختلف الأنحاء والملل. وكان منهم من يخطب أو يلقي شعرا بين يديه فيه. ويتفاوض معهم ويكتب لهم رسائل وعهودا. وقد أسر أمير بني حنيفة فجعله في خيمة فيه. وجرح زعيم بني الأوس فضرب له فيه خيمة وأمر ممرضة من المسلمين بمداواته. وجاء وفد من نصارى نجران فتناظر معه في المسجد وأقام في خيمة نصبها له فيه وكان يعقد فيه مجالس قضائه ومشاوراته ووعظه. وكان أصحابه يأتون إلى المسجد في غير أوقات الصلاة فيتحلقون عليه فيه أو على بعضهم، بل كان منهم من يضطجع أو ينام فيه. وكان فيه صفّة يقيم عليها فقراء وغرباء المسلمين إقامة دائمة «١». وكان في ناحية من فنائه صف بيوت
نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وغرفاته التي ذكرت في القرآن: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤] ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] مما فيه صور متنوعة لما كان يجري في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بحيث يجب أن يحمل هذا الحديث على قصد تنزيه المساجد عن اللهو واللغو والابتذال وما لا يتناسب مع حرمتها من مشاغل الناس الخاصة والشخصية التي لا نفع لها لجماعة المسلمين وبخاصة في أوقات الصلاة والله تعالى أعلم.
وروى أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببناء المساجد في الدور وأن تنظّف وتطيّب». وروى الشيخان عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس».
ويفيد الحديث أن نساء المؤمنين كن يغشين المسجد كالرجال في الليل والنهار.
وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وروى مسلم وأبو داود والترمذي عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد. فقال ابن له يقال له واقد إذن يتّخذنه دغلا. قال فضرب في صدره وقال أقول قال رسول الله وتقول لا». وروى الشيخان عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهنّ». وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» والمتبادر أن المقصود من ذلك عدم رفع بنائها أو تطويلها أو تجصيصها. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قوله: «لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى». وروى أبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». والأحاديث تحمل على الكراهية وليس على المنع والتحريم. وروى الشيخان عن عائشة: «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة
يقال لها مارية فذكرت ما رأت فيها من الصّور فقال رسول الله أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله». وروى الشيخان عن عائشة قالت: «لما نزل برسول الله- تعني لما مرض المرض الذي مات فيه- طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذّر ما صنعوا». وننبه على أن هذا لا ينطبق على مكان قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه دفن في بيته وكان في ناحية من أنحاء مسجده الذي كان موجودا. وروى مسلم والنسائي عن جندب قال: «سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إنّي أنهاكم عن ذلك». وروى البخاري وأبو داود في صفة مسجد رسول الله حديثا عن ابن عمر جاء فيه: «أن المسجد كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللّبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللّبن والجريد وأعاد عمده من خشب النخل. ثم غيّره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة «١» وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالسّاج». وروى البخاري والترمذي عن جابر قال: «كان النبي يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر حنّ الجذع حتى أتاه النبيّ فالتزمه فسكن». وروى الثلاثة «أن امرأة قالت يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا قال إن شئت فعملت المنبر».
وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى». وروى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام. وزاد ابن ماجه وصلاة في المسجد